الصدّيق أبو بكر وتعظيمه لله تعالى (3)
ولا زال أبو بكر معظمًا لربه حتى بعد وفاة حبيبه المصطفى ﷺ، فالقلب الذي امتلأ حباً وإيمانًا وتعلقًا بالله تعالى، ما كان ليزعزع ذاك الإيمان حتى أشد المحن. وهذا ما كان من أبي بكر رضي الله عنه.
أثر تعظيمه لله في ثباته ورباطة جأشه عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم:
عن عبدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ، أنَّ أبَا بَكْرٍ خَرَجَ وعُمَرُ بنُ الخَطَّابِ يُكَلِّمُ النَّاسَ فَقالَ: اجْلِسْ يا عُمَرُ، فأبَى عُمَرُ أنْ يَجْلِسَ، فأقْبَلَ النَّاسُ إلَيْهِ، وتَرَكُوا عُمَرَ، فَقالَ أبو بَكْرٍ: أمَّا بَعْدُ فمَن كانَ مِنكُم يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإنَّ مُحَمَّدًا قدْ مَاتَ، ومَن كانَ مِنكُم يَعْبُدُ اللَّهَ فإنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، قالَ اللَّهُ: ﴿وَما مُحَمَّدٌ إلَّا رَسولٌ قدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران:144]، وقالَ: واللَّهِ لَكَأنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ أنْزَلَ هذِه الآيَةَ حتَّى تَلَاهَا أبو بَكْرٍ، فَتَلَقَّاهَا منه النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَما أسْمَعُ بَشَرًا مِنَ النَّاسِ إلَّا يَتْلُوهَا” [رواه البخاري:4452].
ولما بويع رضي الله عنه بالخلافة بعد وفاة النبي ﷺ رغم شدة تألم قلبه على فراق حبيبه، إلا أن خطبته الأولى كانت تنطق بالتعظيم لله وأنه لا يتقدم عنده شيء على حدوده وشرائعه أبدًا.
عن أنس رضي الله عنه قال:” ..فبايع الناسُ أبا بكرٍ بيعةَ العامةِ بعد بيعةِ السَّقيفةِ، ثم تكلم أبو بكرٍ فحمد اللهَ وأثنى عليه بما هو أهلُه، ثم قال: (أما بعد أيها الناسُ، فإني قد وُلِّيتُ عليكم ولستُ بخيرِكم فإن أحسنتُ فأَعِينوني وإن أسأتُ فقوِّموني، الصدقُ أمانةٌ والكذبُ خيانةٌ، والضعيفُ منكم قويٌّ عندي حتى أزيحَ عِلَّتَه إن شاء اللهُ، والقويُّ فيكم ضعيفٌ حتى آخذَ منه الحقَّ إن شاء اللهُ، لا يدعُ قومٌ الجهادَ في سبيل اللهِ إلا ضربَهم اللهُ بالذُّلِّ، ولا يشيعُ قومٌ قطُّ الفاحشةَ إلا عمَّهم اللهُ بالبلاء، أَطيعوني ما أَطعتُ اللهَ ورسولَه، فإذا عصيتُ اللهَ ورسولَه فلا طاعةَ لي عليكم. قوموا إلى صلاتِكم يرحمْكم اللهُ) [البداية والنهاية:5/218].
– وظل على تواضعه وصلته لجيرانه كما كان عهده قبل الخلافة، وتلك والله أخلاق المعظّمين لربهم تبارك وتعالى:
أورد ابن الجوزيّ: وكَانَ يَحْلِبُ لِلْحَيِّ أَغْنَامَهُمْ، فَلَمَّا بُويِعَ لَهُ بِالْخِلافَةِ قَالَتْ جَارِيَةٌ مِنَ الْحَيِّ: الآنَ لا تَحْلِبُ لَنَا مَنَائِحَ دَارِنَا، فَسَمِعَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: (بَلَى لَعَمْرِي لأَحْلِبَنَّهَا لَكُمْ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَلا يُغَيِّرَنِي مَا دَخَلْتُ فِيهِ عَنْ خُلُقٍ كُنْتُ عَلَيْهِ) فَكَانَ يَحْلِبُ لَهُمْ. [صفة الصفوة:1/258].
– ومن أثر تعظيم الصدّيق رضي الله عنه لله تعالى، تسديد الله تعالى له في مواقف البأس الشديد، ومن ذلك جلاء بصيرته وحكمته في أخذ القرار الحازم بقتال أهل الردة الذين منعوا الزكاة بعد وفاة النبي ﷺ، وإرسالِ الجُيُوشِ لِمُقاتَلَتِهم وإجْبارِهم على دفْعِ الزَّكاةِ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “لَمَّا تُوُفِّيَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ وكانَ أبو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، وكَفَرَ مَن كَفَرَ مِنَ العَرَبِ، فَقالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: كيفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وقدْ قالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: ((أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يقولوا: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فمَن قالَهَا فقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ ونَفْسَهُ إلَّا بحَقِّهِ، وحِسَابُهُ علَى اللَّهِ))؟! فَقالَ: واللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَن فَرَّقَ بيْنَ الصَّلَاةِ والزَّكَاةِ، فإنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، واللَّهِ لو مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلى رَسولِ اللَّهِ ﷺ لَقَاتَلْتُهُمْ علَى مَنْعِهَا. قالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: فَوَاللَّهِ ما هو إلَّا أنْ قدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، فَعَرَفْتُ أنَّه الحَقُّ” [أخرجه البخاري:1399].
-رثاء عليّ بن أبي طالب للصدّيق رضي الله عنه بتعظيمه لله تعالى:
مرض رضي الله عنه ثم توفي في السنة الثالثة عشرة عن ثلاث وستين سنة، وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وثلاثة عشر يومًا. ودفن في بيت عائشة ورأسه عند كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان أوصى بذلك، وارتجت المدينة بالبكاء ودُهش القوم، ولما توفي جاء علي بن أبي طالب كرم الله وجهه باكيًا مسرعًا مسترجعًا حتى وقف بالباب وقال: يرحمك الله أبا بكر لقد كنت والله أول القوم إسلامًا، صدّقت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا، وسمَّاك الله في كتابه صدّيقًا فقال: ﴿والذي جاء بالصدق وصدّق به﴾ [الزمر: 33].
وكان من أجلِّ ما عظم أبو بكر به ربه عز وجل عنايته بكلامه وقرآنه .. فكان له السبق في قرار جمع القرآن حفاظاً عليه من التحريف والضياع:
فروى البخاري (ح4402) عن زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، وكان ممن يكتب الوحي قال: “أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة، وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقُرَّاء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن. قال أبو بكر: قلت لعمر: كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر. قال زيد بن ثابت، وعمر عنده جالس لا يتكلم، فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه. … ثم قال: فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب، وصدور الرجال.
فالحمد لله الذي سخر لهذا الدين رجالاً يقدرون لله قدره، ويعظمونه حق تعظيمه، ويسارعون في مرضاته، ويعظمون كلامه، فاللهم احشرنا مع زمرة المُنعَم عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسُنَ أولئك رفيقًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
– وما قدروا الله حق قدره: عبد العزيز ناصر الجُلَيّل
– مباحث المفاضلة في العقيدة:د.محمد عبد الرحمن الشظيفي
– أبو بكر الصدّيق:علي الطنطاوي
– الصاحب والخليفة أبو بكر الصديق:د.راغب السرجاني