من تعظيم الله تعالى: ذِكْرُهُ طرفَيْ النهار
أعظم العبادات التي تثمر تعظيم الله تعالى في قلب المؤمن، هو ذكر الله تعالى، مع التدبر في معانيه، فلم يحثّ الله تعالى على الإكثار من عبادة مثل الذكر، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:41] قال ابن عباس : لم يفرض الله تعالى فريضة إلا جعل لها حدا معلوما، ثم عذر أهلها في حال العذر، أما الذكر فإنه لم يجعل له حدا ينتهى إليه، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله وأمرهم به في كل الأحوال، في الليل والنهار، في البرّ والبحر وفي الصحة والسقم، وفي السر والعلانية. وقال مجاهد: “الذكر الكثير أن لا تنساه أبدا” [ابن كثير/ تفسير الأحزاب].
ثم نبّه الله تعالى عباده إلى العناية بعبادة الذكر في أول النهار وآخره، فقال عزّ وجلّ: ﴿وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الأحزاب:42] أي: عند الصباح والمساء، والبكرة أول النهار، والأصيل آخر النهار، والمعنى: اشغلوا ألسنتكم معظم أوقاتكم بذكره وتسبيحه وحمده وتنزيهه، والتسبيح والتحميد في البكور والآصال. [ابن كثير/تفسير الأحزاب].
وقال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾[الأعراف:205] قال ابن كثير: “المراد الحض على كثرة الذكر من العباد بالغدو والآصال ، لئلا يكونوا من الغافلين “.
وقد تكرر هذا التوجيه في القرآن الكريم إلى المحافظة على ذكر الله تعالى طرفي النهار، لأنه باب الفتح الأكبر إلى معرفة الله وتعظيمه، لأسباب كثيرة، منها:
– أن دوام الذكر صباحا ومساءً يملأ قلب المؤمن بتعظيم واستشعار هيبته وإجلاله، لأن مفردات الأذكار المشروعة وألفاظها كلها تعظيمٌ وتقديسٌ وتحميدٌ لله تعالى، فإذا أكثر العبد من ذكر الله عزّ وجلّ كل يومٍ وليلة، وفيما شُرِع من أذكار العبادات المتضمنة لأذكار التكبير والتحميد والتعظيم في حركات الصلاة وفي مناسك الحج وغيرها، وأداها بتدبر وخشوع كلما أحدث ذلك في قلب قائلها تعظيمًا وإجلالًا ومحبةً لله تعالى.
– تكرار ذكر الله تعالى بكرةً وعشيًّا مع استحضار معيته وأنه تبارك وتعالى يذكر من يذكره من عباده، ينمّي تعظيم الله وإجلاله في قلب المؤمن قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة:152] وهذا مقام ٌ مهيب، وفضل كبير من الله العظيم على عبادة الفقراء إليه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يقولُ اللَّهُ تَعالَى: “أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ منهمْ” [رواه البخاري: 7405]. أي: إنْ ذَكرَني العَبدُ بالتَّسبيحِ والتَّهليلِ – أو غيرِها من الألفاظ التي شرع الله تعالى لعباده أن يذكروه ويعظّموه بها – منفردًا عن الناس، ذكَرْتُه في نَفْسي، وإنْ ذكرني في جَماعةٍ من النَّاسِ، ذكَرْتُه في مَلَأٍ خَيرٍ مِنهُم، وهم الملأُ الأعْلَى. والمقصود بالذكر ما يعم الدعاء، وتلاوة القرآن، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، والإستغفار، ومطلق الذكر المشروع في القرآن والسنة النبوية الصحيحة.
– ما وعد الله تعالى به الذاكرين له طرفّيْ النهار من أجورٍ عظيمة، يستوجب على المؤمن شدة التعظيم والتحميد والمحبة لله تبارك وتعالى؛ قال تعالى: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:35] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” مَن قالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، مِائَةَ مَرَّةٍ، لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَومَ القِيَامَةِ بأَفْضَلَ ممَّا جَاءَ به، إِلَّا أَحَدٌ قالَ مِثْلَ ما قالَ، أَوْ زَادَ عليه” [رواه مسلم:2692].
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” لَأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ : أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتِقَ أَرْبَعَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ ، وَلَأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ : أَحَبُّ إِلَيَّ مَنْ أَنْ أَعْتِقَ أَرْبَعَةً” [أخرجه أبو داود:3667 ].
– أنّ تعظيم الله تعالى وتمجيده وتقديسه بكرةً وعشيًّا يتزامن مع حدوث آيات قدرته الباهرة في تعاقب الليل والنهار؛ قال تعالى: ﴿فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصۡبِحُونَ، وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَعَشِيّٗا وَحِينَ تُظۡهِرُونَ﴾ [الروم:18،17] قال ابن كثير رحمه الله: “هذا تسبيح منه تعالى لنفسه المقدسة، وإرشاد لعباده إلى تسبيحه وتحميده، في هذه الأوقات المتعاقبة الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه: عند المساء، وهو إقبال الليل بظلامه، وعند الصباح: وهو إسفار النهار عن ضيائه. – ابن كثير/الروم –
ولنتأمَّل كيف يرتبط التسبيحُ والحمد بالأوقات الفاضلة، وبآفاق الأرض والسماوات؛ حتى يظلَّ القلب متصلًا بالله في كلِّ زمان ومكان.
فسبحان مَن جمع لنفسه الحمدَ كلَّه في الزمان والمكان، مثنِيًا بذلك على نفسه، ومعَلِّمًا عباده كيف يثنون عليه ويعظّمون جلاله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
– وما قدروا الله حق قدره:عبد العزيز ناصر الجُلَيّل