الصدّيق أبو بكر وتعظيمه لله تعالى (2)
إن من أكبر ثمرات قيمة التعظيم لله تعالى في ربوبيته وألوهيته أنها تورث المؤمنين ثقة واطمئنانًا لا حدود لهما في موعود الله تعالى لعباده بالنصر والتمكين والكفاية والفوز العظيم عند لقائه تبارك وتعالى، وقد حاز الصدّيق النصيبَ الأوْفى من هذا التعظيم وثماره.
من أعظم دلائل تعظيم الصدّيق رضي الله عنه لربه جلّ وعلا، موقفه يوم بدر الذي تجلّى فيه ثقته المطلقة في الله تعالى وأنه ناصرٌ دينه ومنجزٌ وعده لنبيه صلى الله عليه وسلم، فكان ملازمًا للنبي صلى الله عليه وسلم، يهدئ من روْعه، ويؤكد له أن الله تعالى سينجز له ما وعده.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “لما كان يوم بدر نظر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى المشركين، وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله – صلى الله عليه وسلم – القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض)) فما زال يهتف بربه مادًّا يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك” رواه مسلم: 1763.
– ومن آثار تعظيم الصدّيق لله تعالى شدة ورعه عن الحرام والشبهات، فتعظيم الله تعالى يورث خشيته وتقواه، ويثمر الورع في مواطن الشبهات، وقد كان الصدّيق رضي الله عنه عميقًا في ورعه، مدقّقًا في كل أمره، حذرًا مما يغضب الله تعالى خشيةً وتعظيمًا لله الذي أحصى كل شيء عددًا:
عن زيد بن أرقم قال: كان لأبي بكر الصديق مملوك يغل عليه، فأتاه ليلة بطعام، فتناول منه لقمة، فقال له المملوك: ما لك كنت تسألني كل ليلة ولم تسألني الليلة؟ قال: حملني على ذلك الجوع، من أين جئت بهذا؟ قال: مررت بقوم في الجاهلية فرقيت لهم فوعدوني، فلما أن كان اليوم مررت به فإذا عرس لهم فأعطوني. فقال: أفٍّ لك؛ كدت تهلكني. فادخل يده في حلقه فجعل يتقيأ، وجعلت لا تخرج، فقيل له: إن هذا لا تخرج إلا بالماء. فدعا بعس من ماء فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها، فقيل له: يرحمك الله كل هذا من أجل هذه اللقمة؟! فقال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، سمعت رسول الله ﷺ يقول: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ)) [رواه أحمد:14032]. فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة. [صفة الصفوة: 1/94].
– ومن امتلأ قلبه بالمحبة والتعظيم لله تبارك وتعالى يكون متجهًا بهمّته نحو المسارعة والسبق إلى كل عمل يرضي الله تعالى، وقد كان صدّيق الأمة رضي الله عنه أكثر من سارع وسابق إلى الخيرات من جميع أبوابها:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أصبح منكم اليوم صائماً؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن تبع منكم اليوم جنازةً؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟)) قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما اجتمعن في أمرئ إلا دخل الجنة )) [رواه مسلم: 1028].
وعن عبد الله بن الزبير عن أبيه أن عمرًا ذكر أبا بكر رضي الله عنهما وهو على المنبر، فقال: “إن أبا بكر كان سابقًا مبرزًا” [رواه أحمد في الزهد،ص138 ].
– ومن تعظيم الصدّيق رضي الله عنه لله تعالى اجتهاده في تعلّم الدعاء والتضرع، فمن عرف الله تعالى وعظّمه أحبه وأحب ذكره ودعاءه:
عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنَّهُ قالَ لِرَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: عَلِّمْنِي دُعَاءً أدْعُو به في صَلَاتِي، قالَ: ((قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، ولَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنْتَ، فَاغْفِرْ لي مَغْفِرَةً مِن عِندِكَ، وارْحَمْنِي إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ)) [رواه البخاري: 834].
وهذا الدعاء تضمن من الإخبات والتعظيم لله تعالى وما يقابله من الاعتراف بالذنب والإزراء على النفس تواضعًا وخضوعًا لله، وقوله: (ولا يغفر الذنوب إلا أنت) في هذا إقرارٌ بالذنْبِ، وأنَّه مِن صُنع المرءِ نفْسِه، وقد أقرَّ واعترَف بأنَّه لا يَغفِرُ الذُّنوبَ إلَّا اللهُ؛ لِكَمالِ مُلكِه، ففيه الإقرارُ بوَحدانيَّةِ الباري سبحانَه وتعالَى، واستِجلابٌ لمَغفرتِه بهذا الإقرارِ. وهذا الدُّعاءُ مِنَ الجَوامعِ؛ إذ فيه اعترافٌ بِغايةِ التَّقصيرِ -وهو كَونُ العَبدِ ظالِمًا لنفْسِه ظُلمًا كثيرًا-، وطلَبُ غايةِ الإنعامِ الَّتي هي المغفرةُ والرَّحمةُ؛ إذِ المغفرةُ سَترُ الذُّنوبِ ومَحْوُها، والرَّحمةُ إيصالُ الخَيراتِ، وهذا هو الفوزُ العظيمُ.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أبابكر الصديقَ رضي الله عنه قال: يا رسولَ اللهِ! مُرني بكلماتٍ أقولُهُن إذا أصبحتُ وإذا أمسيتُ، قال ﷺ: ((قل: اللهم فاطرَ السمواتِ والأرضِ عالمَ الغيبِ والشهادةِ ربَّ كلِّ شيءٍ ومليكَه، أشهدُ أن لا إله إلا أنت، أعوذُ بك من شرِّ نفسي، وشرِّ الشيطانِ وشِرْكِه. قال: قلْها إذا أصبحتَ، وإذا أمسيتَ، وإذا أخذتَ مضجعَك)). [أخرجه أبو داود: 5067].
– وهذه المواقف تعكس أيضًا جانبًا هامًا من تعظيم الله تعالى حرص عليه الصديق رضي الله عنه، ألا وهو تعظيم نصوص الوحي الشريف وموافقة السنة قولًا وعملًا واعتقادًا ، فقد لازم الصديقُ رسولَ الله ﷺ ورأى كيف كان رسول الله ﷺ يستغيث بالله ويستنصره ويطلب المدد منه، وقد حرص الصديق على أن يتعلم هذه العبادة من رسول الله، وأن يكون دعاؤه وتسبيحه على الصيغة التي يأمر بها رسول الله ﷺ ويرتضيها.
فرضي الله تعالى عن الصديق أبي بكر.
لقراءة الجزء الأول من المقال من خلال هذا الرابط: اضغط هنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
– وما قدروا الله حق قدره: عبد العزيز ناصر الجُلَيّل
– مباحث المفاضلة في العقيدة:د.محمد عبد الرحمن الشظيفي
– أبو بكر الصدّيق:علي الطنطاوي
– الصاحب والخليفة أبو بكر الصديق:د.راغب السرجاني