الصدّيق أبو بكر .. وتعظيمه لله تعالى (1)
إن من مظاهر عظمة الله تعالى أنه سبحانه هو المنفرد بالخلق والاصطفاء من بين خلقه، قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ [القصص:68].
وهو سبحانه الخافض الرافع، صاحب المعارج والمنازل، والدرجات والمراتب، قد رتّب – سبحانه – عباده السعداء المُنْعَم عليهم أربع مراتب، قال تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء:69].
وقد اصطفى الله تعالى أبا بكر على الناس جميعًا، واختاره ليكون الصاحب الأول لنبيه صلى الله عليه وسلم، وجعله في أعلى مقام من مقامات العبودية والتعظيم لله تعالى بعد النبيين والمرسلين.
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ اللَّهَ اختارَ أصحابي على العالَمينَ سوى النَّبيِّينَ والمرسلينَ، واختارَ لي من أصحابي أربعةً – يعني أبا بَكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليًّا رضي الله عنهم – فجعلَهم أصحابي، وقالَ: في أصحابي كلُّهم خيرٌ. واختارَ أمَّتي على الأممِ، واختارَ أمَّتي أربعَ قرونٍ الأوَّلُ والثَّاني والثَّالثُ والرَّابعُ)) [حسنٌ، أخرجه البزار في الأحكام الشرعية الكبرى: 4/468].
وقد أضاءت سيرة الصدّيق رضي الله عنه بدلائل تعظيمه لله تعالى، وانعكاس ثمرات هذا التعظيم على سلوكه؛ فهو مثلٌ أعلى للمؤمنين في الإيمان واليقين والتعظيم لله جلّ وعلا، يقتدون به إلى يوم القيامة، ومواقفه الناطقة بتعظيم الله تعالى أكثر من أن تُحصى في هذا المقام، ونذكر منها:
– تعظيمه لله تعالى بصدق الإيمان (التصديق) وقوة اليقين في الله سبحانه وتعالى:
عن عمر بن الخطابِ رضي الله عنه (موقوفًا) قال: (لو وُزِنَ إيمانُ أبي بكرٍ رضي اللهُ عنه بإِيمانِ أهلِ الأرضِ، لرجحَ بهِم) [أَخْرَجَه إِسْحَاقُ بنُ رَاهَوَيْهِ في مسنده:3/669]. فالصدّيق رضي الله عنه هو أكمل الأمة وأفضلها، وهو أفضل الناس بعد الأنبياء، وقد ذكر الطبري رحمه الله أسباب إطلاق هذا اللقب على أبي بكر رضي الله عنه، فقال:
“إنما قيل له (أبا بكر الصدّيق) لصدقه، وقيل: إنما سُمّيَ (صدّيقًا) لتصديقه النبي صلى الله عليه وسلم في مسيره في ليلة واحدة إلى بيت المقدس من مكة وعوده إليها”.
– ومن تعظيم الصدّيق لله تعالى نصرته لدين الله تعالى وتأييده لرسوله صلى الله عليه وسلم، فمنذ الأيام الأولى في عمر الإسلام يعتق الضعفاء ويقول:”إنما أريد ما عند الله”، فكان تعظيم الله وإرادة مرضاته لا يغيب عنه أبدًا:
عن عامر بن عبد الله بن الزّبير، قال: كان أبو بكر الصدّيق يُعتق على الإسلام بمكة، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن، فقال له أبوه: أي بنيّ، أراك تعتق أناسًا ضعفاء، فلو أنك أعتقت رجالا جَلْدا يقومون معك، ويمنعونك، ويدفعون عنك، فقال: أي أبت، إنما أريد “أظنه قال: ما عند الله”، قال: فحدثني بعض أهل بيتي، أن هذه الآية أنزلت فيه: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ [الليل:7:5] -تفسير الطبري:سورة الليل – ، وعن قيسٍ قال: اشترى أبو بكر رضي الله عنه بلالاً، وهو مدفون في الحجارة، بخمس أواقٍ ذهباً، فقالوا: لو أبيْت إلا أوقية لبعناك، فقال: لو أبيْتم إلا مائة أوقية لأخذته” – حلية الأولياء:1/72 – .
-ومن تعظيم الصدّيق لله تعالى جوده بكل ماله، لا جزئه، أكثر من مرة، معظّمًا لله تعالى، موقنًا بأنه الرزّاق ذو القوة المتين، وأنه سبحانه سيخلفه ولن يضيعه أبدا:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما نفعَنِي مالٌ قطُّ، ما نفعَنِي مالُ أبي بَكرٍ)) – أخرجه الترمذي:3661 – .
وعن عمرَ بنَ الخطَّابِ قال: أمرَنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ يومًا أن نتصدَّقَ، فوافقَ ذلِكَ مالًا عندي، فقلتُ : اليومَ أسبِقُ أبا بَكْرٍ إن سبقتُهُ يومًا، فَجِئْتُ بنصفِ مالي، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ : ما أبقيتَ لأَهْلِكَ ؟، قلتُ : مثلَهُ، قالَ: وأتى أبو بَكْرٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ بِكُلِّ ما عندَهُ، فقالَ لَهُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ: ما أبقَيتَ لأَهْلِكَ ؟ قالَ: أبقَيتُ لَهُمُ اللَّهَ ورسولَهُ، قلتُ: لا أسابقُكَ إلى شيءٍ أبدًا” – رواه أبو داود:1678 –.
وإنفاق المال كله، خصيصة لأبي بكر لشدة تعظيمه وقوة يقينه في الله تعالى، قال الإمام البغوي في (شرح السُنّة): “والاختيار للرجل أن يتصدقَ بالفضلِ من ماله، ويستبقي لنفسه قوتاً لما يخاف عليه من فتنة الفقر، وربما يلحقه الندم على ما فعل، فيبطل به أجره، ويبقى كلاً على الناسِ، ولم يُنْكِر النبيُّ صلى الله عليه وسلم على أبي بكرٍ خُرُوجه من مَالِه أجمع، لما عَلِمَ من قوةِ يقينه، وصحةِ توكله فلم يخف عليه الفتنة، كما خافها على غير” .
– من أبرز دلائل تعظيم الصديق رضي الله عنه لله تعالى، سرعة فيْئته وعودته للإنفاق على من آذاه في حادثة الإفك، تعظيمًا وتقديمًا لأمر الله تعالى بالعفو والصفح ومعاودة الإنفاق، وتغليب ذلك على مشاعره الشخصية والتي كان فيها محقًّا، وكل ذلك إجلالًا لأمر الله تعالى وتعظيمًا له :
عن عائشة رضي الله عنها قالت:” قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ: وَاللهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا، بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ، فَأَنْزَلَ اللهُ: ﴿وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: 22] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللهِ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا” – رواه البخاري:4750 – و قد نص المفسرون على أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وتضمنت شهادة القرآن له بأنه من أهل الفضل، رضي الله عنه وأرضاه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
– وما قدروا الله حق قدره: عبد العزيز ناصر الجُلَيّل
– مباحث المفاضلة في العقيدة:د.محمد عبد الرحمن الشظيفي
– أبو بكر الصدّيق:علي الطنطاوي
– الصاحب والخليفة أبو بكر الصديق:د.راغب السرجاني