أما الركوع؛ فعظِّموا فيه الربُّ
الصلاة .. أُنس الفؤاد ونفحة الرحمن لعباده المؤمنين .. شرعها الله لعباده، وجعلها محلًا لتعظيمه وتمجيده، في كل أركانها وهيئاتها، وفي معاني ما يتحرك اللسان فيها من القرآن والأذكار، في القيام والركوع والسجود، فيتجلى فيها التعظيم لله والخضوع لعظمته، وإفراده وحده بالعبادة.
والركوع .. تلك الهيئة البديعة التي يملؤها الخضوع و التذلل والخشوع .. جعلها الله من هيئات التعظيم التي لا تنبغي إلا له وحده .. وحرَّم على المسلم أن يتوجه بها لسواه تعالى، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قالَ رجلٌ: يا رسولَ اللَّهِ، الرَّجلُ منَّا يلقى أخاهُ أو صديقَه أينحني لَه؟ قالَ: «لا»، قالَ: أفيلتزِمُه ويقبِّلُه؟ قالَ: «لا»، قالَ: أفيأخذُ بيدِه ويصافحُه؟ قالَ: «نعَمْ». (أخرجه الترمذي، 2728) – ، قال النووي في مجموعه النفيس: “يُكره حَنْيُ الظهرِ في كل حال لكل أحد؛ لحديث أنس السابق” .
والركوع من أركان الصلاة وفرائضه التي لا تصح إلا بالإتيان به، قال تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة:43] قال الشيخ السعدي: “وفيه أن الركوع ركن من أركان الصلاة لأنه عبّر عن الصلاة بالركوع، والتعبير عن العبادة بجزئها يدل على فرضيته فيها”.
وقد بيّن النبي ﷺ أنّ الركوع محلٌّ لتعظيم الربّ سبحانه، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كَشَفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ، أَلاَ وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» (رواه مسلم:479).
ويصف الإمام ابن القيم معاني تعظيم الله تعالى أثناء الركوع في الصلاة فيقول:”ثم يرجع جاثيًا ظهره خضوعًا لعظمته؛ وتذللًا لعزّته؛ واستكانةً لجبروته، مسبّحًا له بذكر اسمه “العظيم”، منزّهًا عظمته سبحانه عن حال العبد وذلّه وخضوعه؛ ومقابلًا تلك العظمة بهذا الذلّ والانحناء والخضوع، فهو ركن تعظيمٍ وإجلالٍ، كما قال صلى الله عليه وسلم: «أما الركوع: فعظّموا فيه الربّ».
ولا يحَصّل المؤمن تعظيم الله تعالى في عبادة الركوع إلا بتحقيق الطمأنينة أثناء الركوع، وذلك بأن يستوي الظهر في الركوع ولا يبدو في هيئة المتعجِّل الذي يُريد الرفع سريعًا، فإنه يحني ظهره لملك الملوك، وقد كانت هذه الهيئة المطمئنة هي صفة ركوع النبي صلى الله عليه وسلم، عن وابصة بن الأسدي قال: “رأيتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يصلِّي فَكانَ إذا رَكَعَ سوَّى ظَهْرَهُ حتَّى لَو صُبَّ عليهِ الماءُ لاستقرَّ” (رواه ابن ماجة:719 ).
ولم يقرّ النبي ﷺ المسيء صلاته على عجلته وعدم اطمئنانه، بل علّمه كيفية الأداء الخاشع للصلاة، وذكر الركوع فقال: «ثم اركع حتى تطمئن راكعًا» (أبو داود: 856 ).
ومن أسباب تحصيل التعظيم لله تعالى أثناء الركوع: التدبر في معاني أذكار الركوع، مثل التسبيح بالتعظيم، فعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه في وصفه لصلاة الرسول ﷺ؛ حيث قال: «ثُمَّ رَكَعَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ». (رواه مسلم).
ومن أذكار التعظيم في الركوع ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ كانَ يقولُ: في رُكُوعِهِ وسُجُودِهِ: «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَبُّ المَلَائِكَةِ والرُّوحِ». (رواه مسلم: 487). و«السُّبُّوحُ» هو المُبَرَّأُ والمُنَزَّهُ عن النَّقائِصِ والشَّرِيكِ وكلِّ ما لا يَلِيقُ بالأُلوهيَّةِ، و«القُدُّوسُ»: هو المقدَّسُ والمُطهَّرُ والمُنَزَّهُ عن كلِّ ما لا يَلِيقُ بالخالِقِ، وهو رَبُّ الملائكةِ والرُّوحِ، وأما «الرُّوحُ» فإنَّها تَصدُق على الرُّوحِ الَّتِي بها قِوَامُ حياةِ الأحياءِ، والرُّوحُ تَصدُق على جِبْرِيلَ عليه السَّلامُ، أو هي ملائكةٌ معيَّنة .
ومنها أيضًا: عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أنه قال وهو يصف صلاة الرسول ﷺ: وَإِذَا رَكَعَ قَالَ: «اللهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي، وَبَصَرِي، وَمُخِّي، وَعَظْمِي، وَعَصَبِي» (رواه مسلم:771 ).
وقد تضمن هذا الذكر من معاني التعظيم الظاهرة والباطنة شيئًا عظيمًا، فقوله ﷺ: «اللَّهُمَّ لكَ ركَعْتُ» أي: لك وحْدَك، فلا أنْحَني لبشرٍ أو خلْقٍ مِن خلْقِك، «وبك آمَنْتُ» بذاتِك المُقدَّسةِ، وأسمائِك الحُسنى، وصِفاتِك العُلى، «ولك أسلَمْتُ»، أي: ذلَلْتُ وانقَدْتُ، «خشَع»، أي: خضَع وتَواضَع لك «سَمْعي وبصَري»، وخصَّهما مِن بيْن الحواسِّ؛ لأنَّ أكثرَ الآفاتِ بهما، فإذا خشَعَتا قلَّتِ الوساوسُ، وكذلك خشَعَ لك «مُخِّي وعَظْمي وعَصَبي».
وهكذا يستشعر العبد الراكع عظمة الله تعالى تملأ قلبه، وينطق بها لسانه، وتصل إلى أقصى أعماق جسده وروحه، فيجتمع له في ركوعه من الخضوع والتواضع والتعظيم والذكر ما يُخرج من قلبه تعظيم الخلق وكل ما سوى الله جلّ وعلا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
– تعظيم قدر الصلاة:محمد بن نصر المروزي
– ولله الأسماء الحسنى:عبد العزيز ناصر الجُلَيل
– تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان:عبد الرحمن بن ناصر السعدي