مرحباً بكم فى مشروع تعظيم الله

من كتاب (الفوائد) لابن القيم

أكمل الناس لذة

لَذَّة كل أحد على حسب قَدْرِه وهمّته وَشرف نَفسه، فأشرفُ النَّاس نَفْسًا وأعلاهم همّة وأرفعهم قدرًا مَن لذَّته في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه، والتودد إليه بما يحبه ويرضاه، فلذته فِي إقباله عليه وعكوف همته عليه، وَدون ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله، حتى تنتهي إلى من لذَّته في أخسِّ الأشياء من القاذورات والفواحش في كل شيءٍ من الكلام والفِعال والأشغال، فلو عُرضت عليه ما يلْتذُّ به الأول لم تسمح نفسه بقبوله ولا الالتفات إليه، وربما تألمت من ذلك، كما أن الأول إذا عُرض عليه ما يلتذ به، هذا لم تسمح نفسه به ولم تلتفت إليه ونفرت نفسه منه.

 

وأكمل النَّاس لَذَّة من جُمع لَهُ بين لَذَّة الْقلب وَالروح وَلَذَّة الْبدن، فهو يتناول لذَّاته المباحة على وَجه لَا ينقص حَظه من الدَّار الْآخِرَة، وَلَا يقطع عَلَيْهِ لَذَّة الْمعرفَة والمحبة والأنس بربه، فَهَذَا مِمَّن قَالَ تعالى فيه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32].

 

وأبخسهم حظًا من اللَّذَّة مَن تنَاولهَا على وَجه يحول بَينه وَبَين لذَّات الْآخِرَة، فَيكون مِمَّن يُقَال لَهُم يَوْم اسْتِيفَاء اللَّذَّات: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} [الأحقاف: 20]. فهؤلاء تمتعوا بالطيبات وأولئك تمتعوا بالطيبات وافترقوا فِي وَجه التمتع، فأولئك تمتعوا بهَا على الْوَجْه الَّذِي أُذن لهم فيه فَجمع لَهُم بَين لَذَّة الدنيا والآخرة، وهؤلاء تمتعوا بهَا على الْوَجْه الَّذِي دعاهم إليه الْهوى والشهوة وَسَوَاء أذن لهم فيه أم لا، فانقطعت عنهم لذة الدنيا وفاتتهم لذة الآخرة، فلا لذة الدنيا دامت لهم، ولا لذة حصلت لهم.

 

فَمن أحب اللَّذَّة ودوامها والعيش الطيّب فليجعل لَذَّة الدنيا موصلةً لَهُ إلى لَذَّة الآخرة، بِأَن يَسْتَعِين بهَا على فرَاغ قلبه لله وإرادته وعبادته، فيتناولها بِحكم الاستعانة والقوة على طلبه، لَا بِحكم مجرد الشهوة والهوى، وإن كان ممن زُويت عَنهُ لذَّاتُ الدنيا وطيباتُها، فليجعل مَا نقص منها زيادة في الآخرة، ويُجِم نَفسه هَهُنَا بِالتّرْكِ ليستوفيها كاملةً هناك، فطيبات الدُّنْيَا ولذَّاتها نِعْم العون لمن صَحَّ طلبه لله والدار الآخرة، وَكَانَت همّه لما هناك، وَبئسَ الْقَاطِع لمن كَانَت هِيَ مَقْصُوده وهمته وحولها يدندن، وفواتها فِي الدنيا نِعْم العون لطَالب الله وَالدَّار الْآخِرَة، وَبئسَ الْقَاطِع النازع من الله وَالدَّار الْآخِرَة، فَمن أَخذ مَنَافِع الدُّنْيَا على وَجه لَا ينقص حَظه من الْآخِرَة ظفر بهما جَمِيعًا، وَإِلَّا خسرهما جَمِيعًا.

الكلمات المفتاحية

جميع الحقوق محفوظه مشروع تعظيم الله © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود
الأعلىtop