تعظيم السلف الصالح لليلة القدر:
كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين يُعظمون ليلة القدر التي شرفها الله ورفع قدرها، فكانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر، ومنهم من كان يغتسل ويتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر، فلا يصلح لمناجاة الملك في الخلوات إلا من زين ظاهرة وباطنه.
قال ابن جرير: «كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليال العشر الأواخر».
وكن النخعي يغتسل في العشر كل ليلة.
وكان تميم الداري له حلة اشتراها بألف درهم، كان يلبسها في الليلة التي يرجى أنها ليلة القدر.
وقال حماد بن سلمة: «كان ثابت البناني وحميد الطويل يلبسان أحسن ثيابهما ويتطيّبان، ويطيبون المسجد بالنضوح والدخنة في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر».
وكان قتادة يختم القرآن في كل سبع دائمًا، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر في كل ليلة، وذلك تحريًا لليلة القدر.
قال سفيان الثوري: «أحب إلى إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل ويجتهد فيه، وينهض أهله وولده إلى الصلاةإن أطاقوا ذلك، وهذا التوجيه حرصًا على إدارك ليلة القدر».
فليلة القدر تعلّمنا كم أحب الله كلامه، وكيف عظم كتابه، فكلّ تعظيم لهذه الليلة هو بسبب عظمة القرآن حيث نزل فيها، والشأن في ليلة القدر ليس مجرد اغتنامها، ولكن استشعار نعمة الله علينا بها، حيث نزل فيها القرآن الكريم الكتاب الخاتم، فعلينا أن نعلم أن شرفها وما فيها من فضل بسبب نزول القرآن فيها، وما عُظّمت إلا لأجل القرآن، فابحث عن حالك مع القرآن؟
وعُظّمت ليلة القدر لأجل اقتراب رحمة الله من عباده بنزول القرآن الكريم، والذي فيه منهج متكامل، وفيه صلاح أمورهم في الدنيا والآخرة، فإن كان ليل يُعظّم، وملائكة تتنزل، وليلة تقام إلى قيام الساعة كلها بسب نزول القرآن فيها، فكيف بقلب نزل فيه القرآن؟
فينبغي أن نحمد الله تعالى أنه شرح صدورنا للقرآن، فاستبشر بإدراك ليلة القدر لأنها ما عُظّمت إلا لأجل كتاب الله، ومن يعظم كتاب الله ينل الأجر والثواب، فاستحيي من الله أن تكون في ليلة القدر على حال لا يحبه، وأصلح ما بينك وبين القرآن، لأن هذه الليلة ما عُظّمت إلا لنزول القرآن فيها، فقيام ليلة القدر دليل على الإيمان بالغيب ودليل على تصديق كلام الله وجزائه.
وقيام ليلة القدر يحصل بالصلاة فيها إن كان عدد الركعات قليلاً أو كثيرًا، ومن يسَّر الله له أن يدعو بدعوة في وقت ساعة رؤيتها كان ذلك علامة الإجابة، فكم من أناس سعدوا من حصول مطالبهم التي دعوا الله بها في هذه الليلة ثم قال الله: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4]، فينزلون بكل أمر قضاه الله في تلك السنة من أرزاق العباد وآجالهم إلى قابل، وليس الأمر كما شاع بين كثير من الناس من أن ليلة النصف من شعبان هي الليلة التي توزع فيها الأرزاق والتي يبين فيها ويفصل من يموت ومن يولد في هذه المدة إلى غير ذلك من التفاصيل من حوادث البشر، بل تلك الليلة هي ليلة القدر كما قال ابن عباس رضي الله عنهما ترجمان القرآن فإنه قال في قول القرآن: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 3-4]، هي ليلة القدر، ففيها أنزل القرآن وفيها يفرق كل أمر حكيم أي كل أمر مُبْرَم، أي أنه يكون فيها تقسيم القضايا التي تحدث للعالم من موت وصحة ومرض وغنى وفقر وغير ذلك، مما يطرأ على البشر من الأحوال المختلفة من هذه الليلة إلى مثلها من العام القابل. ثم قال الله: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5]، فليلة القدر سلام وخير على أولياء الله وأهل طاعته المؤمنين ولا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا أو أذى، وتدوم تلك السلامة حتى مطلع الفجر.
كيف يكون تعظيم ليلة القدر:
المقال الثالث عشر: من مظاهر تعظيم الله في رمضان (13) | علامات تعظيم النصوص الشرعية