الّذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِي
إنّ من تعظيم المؤمن لله تعالى أن يعرف العباد عظمته في الخلق، وتفضله عليهم بنعمة الهداية؛ فإلى هذيْن الاسمين العظيميْن ترجع جميع منافع العباد في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ﴾ [طه: 50]، قال سعيد بن جبير: “أعطى كل ذي خلق ما يصلحه من خلقه” [تفسير ابن كثير/سورة: طه].
وقد شرع الله لنا سبحانه أن نعظّمه ونثني عليه بقراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة من الصلاة، لتمتلئ القلوب بتعظيم ربها وخالقها، فتبدأ بالتعظيم في قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2]، ثم تسأله الهداية إلى الصراط المستقيم، ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: 6].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه من الليل يعظّم الله تعالى ويثني عليه بصفات الربوبية ويعدد مخلوقاته العظيمة، الدالّة على عظمته، جلّ وعلا، ثم يتبع هذا التمجيد بسؤال الهداية:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كَانَ صلى الله عليه وسلم إذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وإسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بيْنَ عِبَادِكَ فِيما كَانُوا فيه يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِما اخْتُلِفَ فيه مِنَ الحَقِّ بإذْنِكَ؛ إنَّكَ تَهْدِي مَن تَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ” [رواه مسلم: 770].
وكذلك في محاجّة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه عظّم الله تعالى أولًا بوصفيْ (الخَلْق والهداية) .. قال تعالى حكايةً عنه: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 78] فلما اسْتَثْنى رَبَّ العالَمِينَ، وصَفَهُ بما يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ لِأجْلِهِ، ولأنَّ الخَلْقَ والهِدايَةَ وصفان جامعان يَحْصُلُ بهما جَمِيعُ منافع العباد في الدنيا والآخرة.
وعظمة الله تعالى في قدرته على الخَلق وهداية المخلوقات إلى منافعها ظاهرة جليّة لا تخطئها العين، ولا يجادل فيها عاقل وإن كان غير مسلم، قال تعالى: ﴿قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [المؤمنون: 85، 84]، يقول ابن القيم: “إنه ليس في المعلومات أظهر من كوْن الله “خالقًا”، فجميع الحقائق تنتهي إلى خلقه وإيجاده.
قال شيخ الإسلام: “وهذا من أظهر المعارف الضرورية، فإن الإنسان بعد قوته ووجوده لا يقدر أن يزيد في ذاته عضوًا ولا قدرًا، فلا يقصر الطويل، ولا يطول القصير، ولا يجعل رأسه أكبر مما هو ولا أصغر، وكذلك أبواه لا يقدران على شيء من ذلك”. [مجموع الفتاوى: 5ـ 358].
ولذلك كان أول ما نزل من القرآن الكريم مفتَتَحًا بتعظيم الله تعالى وتمجيده بذكر تفرّده سبحانه بالخَلْق، والتعليم والهداية، قال تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1] إلى قوله تعالى: ﴿عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 5].
وتعظيم الله تعالى باسمه “الخالق” يستلزم توحيده سبحانه، فمن منهج القرآن الكريم: الاستدلال بالخلْق والإيجاد من العدم على وحدانية الله تعالى، فكما تفرّد بالخلْق وما يتبعه من عطاء الربوبية كالرزق والهداية، كذلك لا يستحق شيء أن تُصْرَف إليه العبادة غيره سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 21].
ويثمر أيضًا تعظيم الله تعالى وتكبيره وإجلاله عند معاينة مخلوقاته العظيمة، في الآفاق وفي الأنفس؛ لأن عظمة هذه المخلوقات ودقتها وانتظامها يدلّ على عظمة خالقها وإتقانه لما خَلَق، قال تعالى: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ [النمل: 88].
وتعظيم الله تعالى “الخالق” يثمر المحبة الكاملة له سبحانه، والخضوع الكامل لجلاله؛ فهو الذي خلقنا وأوجدنا من العدم، ثم أمدّنا بما في هذا الكون من نعم لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، وبما سخّره لنا من مخلوقات، قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 13].
وتعظيم الله تعالى “الخالق” يدلّ على صفاته الأخرى المتلازمة مع صفة “الخَلْق” كالحياة والقدرة والعلم والإرادة والحكمة، إذ لا يمكن أن يكون خالقًا غير قادرٍ ولا مريدٍ ولا عالمٍ بما خلق، أو أنه ليس له فيما خلق حكمة ولا علّة، وفي هذا المعنى يقول ابن القيم رحمه الله: “من طرق إثبات الصفات: دلالة الصنعة عليها، فإنّ المخلوق يدلُّ على وجود خالقه، وعلى حياته، وعلى قدرته، وعلى علمه ومشيئته”.
اللهم اهدنا واهدِ بنا ويسر لنا سُبل الهُدى والرشاد، إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
– تفسير الطبري: محمد بن جرير الطبري
– ولله الأسماء الحسنى: عبد العزيز بن ناصر الجُلَيّل
– النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى: محمد الحمود النجدي