من تعظيم الله: الكفّ عن السؤال عن الحكمة في كل أمر ونهي
على قدر تعظيم العبد لله تعالى يكون تعظيمه لأمره ونهيه، وأول مراتب تعظيم الأمر والنهي: التصديق والتسليم ثم المسارعة إلى الامتثال والتنفيذ، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [النور:51].
فمن التكاليف الشرعية ما تكون الحكمة من تشريعه ظاهرة مذكورة في نصوص الكتاب والسنة، مثل فريضة الصيام، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:183]، ومنها ما حجب الله تعالى عنّا الحكمة من تشريعه، فيغلب عليه التعبّد المحض، وهذا هو الذي يُكرَه السؤال عنه.
“ولا يلزم من خفاء حكمة الله تعالى علينا عدمها ولا انتفاؤها، ألا ترى أن خفاء حكمة الله علينا في خلق الحيَّات والعقارب والفأر والحشرات التي لا يعلم منها إلا المضرة لم ينف أن يكون الله تعالى خالقاً لها؟! ولا يلزم ألا يكون فيها حكمة وإن خفيت علينا؛ لأن عدم العلم لا يكون علماً بالمعدوم” [ناصر العقل، شرح العقيدة الطحاوية].
والمسلم المعظّم لأمر الله تعالى ينقاد له فور سماعه به وإن لم يعلم حكمته ولا المصلحة المقصودة من ورائه، مع يقينه التام بأنَّ الشريعـة لا تأمر إلا بما فيه مصـالح العباد، ولا تنهى إلا عما فيه فسـادهم وضررهم، قال تعالى: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية:18]، ويقول ابن القيم رحمه الله: “إن مبنى العبودية والإيمان بالله، وكتبه، ورسله على التسليم، وعدم الخوض في تفاصيل الحكمة في الأوامر، والنواهي، والشرائع”.
و كثرة السؤال عن الحكمة في التكاليف الشرعية يخالف تعظيم الله تعالى في اسمه “الحكيم”؛ فتعظيم الله الحكيم يتضمن: التسليم لحكمه الديني الشرعي، والتسليم له في حكمه الكوني القدري، قال الشيخ السعدي: “(الحكيم): وهو الذي له الحكمة العليا في خلقه وأمره، الذي أحسن كل شيء خلقه ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾. فلا يخلق شيئًا عبثًا، ولا يشرّع شيئًا سدًى، الذي له الحكم في الأولى والآخرة، وله الأحكام الثلاثة لا يشاركه فيها مشارك، فيحكم بين عباده، في شرعه، وفي قدره وجزائه، والحكمة: وضع الأشياء مواضعها ، وتنزيلها منازلها”.
والصحابة رضوان الله عليهم كانوا أشد الناس تعظيمًا لله تعالى وتوقيرًا لشرعه، وأسرع امتثالًا لأحكامه، وأبعد ما يكونوا عن السؤال والمعارضة، قال ابن القيم في وصف أدبهم عند تلقي أوامر الشرع من النبي صلى الله عليه وسلم: “ولكن إنما كانوا يسألونه عما ينفعهم من الواقعات، ولم يكونوا يسألونه عن المقدرات والأغلوطات وعضل المسائل، ولم يكونوا يشتغلون بتفريع المسائل وتوليدها، بل كانت هممهم مقصورة على تنفيذ ما أمرهم به، فإذا وقع بهم أمر سألوا عنه فأجابهم”.
ولنتأمل كيف كان تعظيم الفاروق رضي الله عنه لأمر الله تعالى عند تقبيله للحجر الأسود:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنْه قالَ لِلرُّكْنِ: “أَما واللَّهِ، إنِّي لَأَعْلَمُ أنَّكَ حَجَرٌ لا تَضُرُّ ولَا تَنْفَعُ، ولَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اسْتَلَمَكَ ما اسْتَلَمْتُكَ، فَاسْتَلَمَهُ”. [رواه البخاري: 1605].
فقد أوْضَحَ عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ سَببَ تَقبيلِه لهذا الحجرِ رُؤيَتُه النبيَّ ﷺ يُقبِّلُه، ولَولا ذلك ما قَبَّلَه عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه؛ لِعِلْمِه أنَّه حَجَرٌ لا يَضُرُّ ولا يَنفَعُ بذاتِه، وإنَّما النَّفعُ بالثَّوابِ الذي يَحصُلُ بامتِثالِ أمرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والاستِنانِ بتَقبيلِه، فأرادَ أنْ يُعلِّمَهم أنَّ استِلامَ الحَجَرِ لا يُقصَدُ به إلَّا تَعظيمُ اللهِ تعالَى، والوُقوفُ عِندَ أمرِ نَبيِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.
قال ابن حجر: “وفي قول عمر هذا: التسليم للشارع في أمور الدين، وحسن الاتِّباع فيما لم يُكْشَف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي ﷺ فيما شرعه، ولو لم يُعْلَم الحكمة فيه”.
وقد سار العلماء الربانيون على هذا الهدْي من تعظيم الشريعة ومقابلتها بالطاعة والامتثال والكفّ عن ما لا يعني من السؤال، وكانوا يزجرون من يخالف ذلك، قال رجلٌ للزهري: يا أبابكر! حديث رسول الله ﷺ: ((ليسَ مِنَّا مَن لَطَمَ الخُدُودَ، وشَقَّ الجُيُوبَ)) و ((وليس منا من لم يوقّر كبيرنا))، وما أشبه هذا الحديث؟؟ فأطرق الزهري ساعة، ثم رفع رأسه، فقال: “من الله عزّ وجلّ العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم”. [السُنة للخلال:3/579].
فمن أراد الفلاح فليلزم تعظيم الله تعالى بتعظيم شرعه وهدْي نبيه صلى الله عليه وسلم تلقِّيًا وتصديقًا وتسليمًا وتطبيقًا.
وما أحسن ما أنشد ابن القيم في نونيته:
والحكمة الأخرى فحكمة شرعه … أيضًا وفيها ذانك الوصفان
غاياتها اللائي حمدن وكونهــــــــــــــــا … في غاية الإتقان والإحسان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
– ولله الأسماء الحسنى
– تفسير السعدي:عبد الرحمن السعدي