ويدعوننا رغبَا ورهبًا
الدعاءُ مقامُ تعظيم لله تعالى وتمجيد لجلاله وثناءٌ عليه سبحانه وتعالى، لما تضمّنه من إظهار الافتقار إلى الله والتذلل والتضرع بين يديه سبحانه. عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: ((الدُّعاءُ هوَ العبادةُ))، ثمَّ قالَ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر:60] [أخرجه الترمذي: 2969].
والتوازن بين الخوف والرجاء أثناء الدعاء هو منهج القرآن الكريم، وهدْي النبي ﷺ، وقد أرسى الله قواعده في القرآن وأرشد إليه عباده حتى لا تميل بهم إحدى الكفتين فتهلك صاحبها، قال تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾ [الحجر:50،49].
وقال تعالى عن نبيه زكريا وأهله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء:90].
عن عبد الله بن حكيم قال: خطبنا أبو بكر، رضي الله عنه، فقال: “أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله، وتُثْنُوا عليه بما هو له أهل، وتخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة، فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته، فقال: ﴿إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين﴾. [حلية الأولياء:1/35 ].
وقال الطبري في تفسير قوله تعالى: ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾: قال ابن جريج: قال: رغَبًا في رحمة الله، ورهَبًا من عذاب الله، وقال ابن زيد: خوفًا وطمعًا، وليس ينبغي لأحدهما أن يفارق الآخر.
ومن هيئات التعظيم عند الدعاء رفع اليدين، وبها يتحقق وصف الرغبة والرهبة، وقد كان ﷺ إذا اجتهد في الدعاء رفع يديه، عن أنسٍ رضي الله عنه: “أنَّ النبيَّ ﷺ اسْتَسْقَى، فأشَارَ بظَهْرِ كَفَّيْهِ إلى السَّمَاءِ” [رواه مسلم:896].
وقد أورد القرطبي عن ابن عطية في معنى الرغب والرهب والفرق بينهما حالَ الدعاء:
“وتلخيص هذا أن عادة كل داع من البشر أن يستعين بيديه فالرغب من حيث هو طلب يحسن منه أن يوجه باطن الراح نحو المطلوب منه، إذ هو موضع إعطاء أو بها يتملك، والرهب من حيث هو دفع مضرة يحسن معه طرح ذلك، والإشارة إلى ذهابه وتوقيه بنفض اليد ونحوه”.
وتعظيم الله بالخوف والرجاء متلازمان في قلب المؤمن، لا ينفك أحدهما عن الآخر، وقد مدح الله أصحاب هذا الوصف من عباده، قال تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء ٱلَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو ٱلألْبَابِ﴾ [الزمر:9].
قال ابن القيم: “والقلب في سيره إلى الله عزّ وجلّ بمنزلة الطَّائر؛ فالمحبَّة رأسه، والخوف والرَّجاء جناحاه، فمتى سلِم الرَّأس والجناحان، فالطائر جيِّدُ الطيران، ومتى قطع الرأس، مات الطائر، ومتى فقد الجناحان، فهو عرضة لكل صائدٍ وكاسر؛ فالجمع بين هذه الثلاثة حتمٌ لازم، وحقٌ واجب، ومتى ذهب واحد منها وقع الخلل في الديانة “.
والخوف من الله تعالى من لوازم تعظيمه، فلا يُصْرَفْ ولا ينبغي إلا لله، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:175].
ومذهب السَّلف رحمهم الله أنهم استحبُّوا أن يُقَوِّي المؤمن جناح الخوْف على جناح الرَّجاء في حال الصحة والعافية، ويقوِّي جناح الرَّجاء على جناح الخوْف في حال المرض والبلاء، وعند الخروج من الدُّنيا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “الخوف المحمود ما حجزك عن محارم الله” فإذا تَجاوز ذلك، خِيفَ منْه اليأْس والقنوط.
وكذلك الرجاء في رحمة الله تعالى من لوازم تعظيمه، ولا يُصْرَفْ إلا لله تعالى، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال اللهُ: يا ابنَ آدمَ ! إنك ما دعوْتَنِي ورجوتني غفرتُ لك على ما كان فيك ولا أُبالي، يا ابنَ آدمَ ! لو بلغت ذنوبُك عنانَ السماءِ ثم استغفرتني غفرتُ لك ولا أُبالي، يا ابنَ آدمَ! إنك لو أتيتني بقُرابِ الأرضِ خطايا ثم لقيتَني لا تُشركُ بى شيئًا؛ لأتيتُك بقُرابِها مغفرةً)) [أخرجه الترمذي:3540]. وهذا الحديث مما يعظم رجاء المؤمن في ربه وفيه بيان سَعَةُ رحمةِ اللهِ تَعالى ومغفرتِه وفَضلِه.
وقال ابن المبارك: جئتُ إلى سفيان الثَّوري عشيَّة عرفة، وهو جاثٍ على ركبتيه، وعيناه تهملان، فقلتُ له: مَن أسوأ هذا الجمْع حالاً؟ قال: الذي يظنُّ أنَّ الله لا يغفِر لهم”.
فمن يعظّم الله تعالى سيمتلئ قلبه بالرجاء فيما عند الله من خير الدنيا والآخرة، ولكن مع استمراره في العمل، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النبيَّ ﷺ، قَبْلَ وَفَاتِهِ بثَلَاثٍ يقولُ: ((لا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهو يُحْسِنُ باللَّهِ الظَّنَّ)) [أخرجه مسلم: 2877].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
– الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي:ابن قيم الجوزية
– ولله الأسماء الحسنى:عبد العزيز بن ناصر الجُلَيّل