مظاهر العظمة في تسخير الأنعام
من نعم الله تعالى على عباده أن سخر لهم من المخلوقات ما يسهّل عليهم عيْشهم، وعبادتهم، وإنّ في خلق الأنعام وتسخيرها للإنسان لآيات عجيبة، لا يملك المتأمل فيها إلا أن يزداد تعظيمًا لله تعالى وشكرًا وحمدًا على إنعامه، واعترافًا بقدرته واقتداره على الخلْق؛ فتبارك الله أحسن الخالقين.
وأول مظاهر العظمة في خلق الأنعام: تسخيرها للإنسان، وطاعتها وانقيادها له، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ [المؤمنون:21]، وما أحسن ما قاله ابن القيم متأملًا في عظمة خلقِ الأنعام وكيفية تسخيرها، قال رحمه الله: “ثمَّ تَأمل الحِكْمَة البالِغَة في إعطائه سُبْحانَهُ بَهِيمَة الأنعام الأسماع والأبصار ليتم تناولها لمصالحها ويكمل انْتِفاع الإنسان بها، إذْ لَو كانَت عمياء أوْ صماء لم يتَمَكَّن من الِانْتِفاع بها، ثمَّ سلبها العُقُول على كبر خلقها الَّتِي للإنسان ليتم تسخيره إياها، فيقودها ويصرفها حَيْثُ شاءَ.
وَلَو أُعطيت العُقُول على كبر خَلْقِهَا لامتنعت من طاعَته، واستعصت عَلَيْهِ، ولم تكن مسخرة لَهُ، فَأعْطيت من التَّمْيِيز والإدراك ما تتمّ بِهِ مصلحتها، ومصلحة من ذَلِك لَهُ، وسلبت من الذِّهْن والعقل ما ميز بِهِ عَلَيْها الإنسان، وليظهر أيضًا فَضِيلَة التَّمْيِيز والاختصاص.
فترى البَعِير على عظم خلقته يَقُودهُ الصَّبِي الصَّغِير ذليلاً منقادًا له، ولو لم يوجد لكانَ يحْتاج مَكان الجمل الواحِد إلى عدَّة أناسيّ يحملون أثقاله، وكانَ ذَلِك يستفرغ أوقاتهم ويصدّهم عَن مصالحهم؛ فأُعِينُوا بِهَذِهِ الحَيَوانات مَعَ ما لهم فِيها من المَنافِع الَّتِي لا يحصيها إلا الله من الغذاء والشراب والدواء واللباس والأمتعة والآلات والأواني والرُّكُوب والحرث والمَنافِع الكَثِيرَة والجَمال.
ثمَّ تَأمل الحِكْمَة البالِغَة في أن جعل ظُهُور الدَّوابّ مبسوطة كَأنَّها سقف على عمد القوائم ليتهيأ ركُوبها وتستقر الحمولة عَلَيْها، ثمَّ خُولِفَ هَذا في الإبل فَجعل ظُهُورها مُسَنَّمة معقودة كالقبْوِ، لما خُصت بِهِ من فضل القُوَّة وعِظَم ما تحمله”.
ومن مظاهر العظمة في خلق الأنعام: تعدد منافعها للإنسان:
قال تعالى: ﴿اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ، وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ﴾ [غافر:81:79].
قال الشيخ السعدي: “يمتن تعالى على عباده، بما جعل لهم من الأنعام، التي بها، جملة من الإنعام، منها: منافع الركوب عليها، والحمل. ومنها: منافع الأكل من لحومها، والشرب من ألبانها. ومنها: منافع الدفء، واتخاذ الآلات والأمتعة، من أصوافها، وأوبارها وأشعارها”.
وخصّ الله تعالى شراب (اللبن) بمزيد من التفصيل في بيانِ عظمةِ خَلْقِه، وخروجه من بين الفرث والدم صافيًا سائغًا للشاربين، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ ﴾ [النحل:66].
و(العبرة) أي: الدلالة على قدرة الله ووحدانيته وعظمته، فقد جعل الله لخلقه في هذه الأنعام من المنافع، ما يستدلون به على كمال قدرة الله وسعة إحسانه؛ حيث أسقاكم من بطونها المشتملة على الفرث والدم، فأخرج من بين ذلك لبنًا خالصًا من الكدر سائغًا للشاربين للذته ولأنه يسقي ويغذي، فهل هذه المنافع إلا مظهرًا من مظاهر عظمة القدرة الإلهية؟
وفي ذبحها تعظيمٌ لله تعالى وتكبيرٌ وتمجيدٌ لجلاله، وإظهارٌ لتوحيده؛ لأن المسلم الموحّد لا يذبح إلا لله تعالى وحده لا شريك له، قال تعالى: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الحج:37] قال ابن كثير: “أي: لتذكروه عند ذبحها، ولتعظموه كما هداكم لدينه وشرعه وما يحبه، وما يرضاه، ونهاكم عن فعل ما يكرهه ويأباه”.
ومن تعظيم الله تعالى حمد وشكره على هذه النعمة، وذلك بالإحسان إلى الأنعام ومراقبة الله فيها، عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دخلَ حائطًا لرَجُلٍ مِن الأنصارِ فإذا جَملٌ، فلَمَّا رأى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ حنَّ وذرِفَت عيناهُ، فأتاهُ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فمَسحَ ذِفراهُ فسَكَتَ، فقالَ: ((مَن ربُّ هذا الجَمَلِ، لمن هذا الجمَلُ؟)) فَجاءَ فتًى منَ الأنصارِ فَقالَ: لي يا رسولَ اللَّهِ. فَقالَ: ((أفلا تتَّقي اللَّهَ في هذِهِ البَهيمةِ الَّتي ملَّكَكَ اللَّهُ إيَّاها؟ فإنَّهُ شَكا إليَّ أنَّكَ تُجيعُهُ وتُدئبُهُ)) [أخرجه أبو داود: 2549].
وقوله: ((شَكَا إليَّ أنَّكَ تُجِيعُهُ))، أي: لا تُطْعِمُهُ حتَّى يُؤْذِيَه الجُوعُ، ((وتُدْئِبُهُ))، أي: تُكِدُّهُ وتُتْعِبُهُ في العَمَلِ الكثير.
وعليه أن يحسن إليها أيضًا عند ذبحها، عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُما عن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: ((إنَّ اللهَ كتَبَ الإحسانَ على كلِّ شيءٍ، فإذا قتَلتُم فأَحْسِنوا القِتْلةَ، وإذا ذبَحتُم فأَحْسِنوا الذَّبْحَ، ولْيُحِدَّ أحَدُكم شَفْرتَه، ولْيُرِحْ ذَبيحتَه)) [رواه مسلم:1955].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
– تفسير ابن القيم: ابن قيم الجوزية
– تفسير السعدي:عبد الرحمن السعدي