مواضع التعظيم في حركات الصلاة
إنّ من تعظيمِ الله عزّ وجلّ تعظيمُ فرائضه، والصلاة هي أعظم فرائض الإسلام بعد الشهادتين، ومن عظمة قدرها وشرفها أنّ الله تعالى فرضها على أمة الإسلام من فوْق سبع سماوات، حينما عُرِج بالنبي صلى الله عليه وسلم وهي عمود الإسلام وعلامة الإيمان، وقد جعلها الله محلًّا لتعظيمه والثناء عليه والخضوع والخشوع بين يديه، خمس مرات كل يوم وليلة، فلا يزال العبد موصولًا بربه، متشوقًا للقائه، منتظرًا للصلاة بعد الصلاة..!
فمقام الصلاة كلّه مقام تعظيمٍ لله تعالى، وجميع أعمالها توحيدٌ لله وتعظيمٌ لجلاله:
قال محمد بن نصر المروزي:”فلا عمل بعد توحيد الله أفضل من الصلاة لله، لأنه افتتحها بالتوحيد، والتعظيم لله بالتكبير، ثم الثناء على الله، وقراءة فاتحة الكتاب، وهي حمدٌ لله، وثناءٌ عليه، وتمجيدٌ له، ودعاء، وكذلك التسبيح في الركوع، والسجود، والتكبيرات عند كل خفضٍ ورفع، كل ذلك توحيدٌ لله، وتعظيمٌ له، وختمها بالشهادة له بالتوحيد، ولرسوله بالرسالة.
ولو تأملنا أركان الصلاة وواجباتها وسننها، وما يسبقها من الاستعداد لها بالوضوء والطهارة، وما يتبعها من الأذكار؛ لرأيناها كلها تعظيمًا لله وتكبيرًا لجلاله
وأول ذلك التكبير في استفتاحها والتنقل بين حركاتها، و(التكبيرُ) إنما هو تعظيمٌ لله عزّ وجلّ، وأنه لا أحد أكبر منه في ذاته وصفاته وأفعاله، وعندما سُئِلَ الشافعي رحمه الله عن رفع اليدين في الصلاة عند الدخول فيها، وعند الركوع والرفع منه، قال: “تعظيمُ الله واتباعُ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم”.
ثم استفتاحها بالثناء على الله وتعظيمه، وكان صلى الله عليه وسلم يستفتح بأدعية تنبض كلماتها بالخضوع لله والثناء عليه وتعظيمه بأتم عبارة وأحسنها، ومثاله: عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال: “وجَّهْتُ وجهِيَ للذي فطرَ السمواتِ والأرضَ حنيفًا وما أنا من المشركينَ إنَّ صَلاتي ونسُكي ومحيايَ ومماتي للهِ ربِّ العالمينَ، لا شريكَ له وبذلكَ أمرتُ وأنا من المسلمينَ، اللَّهُمَّ أنت الملِكُ لا إله إلَّا أنت، أنت ربي وأنا عبدُك، ظلمتُ نفسي، واعترفتُ بذنبي فاغفِرْ لي ذنوبِي جميعًا إنَّه لا يغفرُ الذنوبَ إلَّا أنتَ، واهدني لأحسنِ الأخلاقِ لا يهدي لأحسَنِهَا إلَّا أنتَ، واصرِفْ عني سيئَهَا لا يصرفُ عني سيِّئَهَا إلا أنتَ، لبيك وسعدَيْك، والخيرُ كلُّه في يديْك، والشرُّ ليس إليك، أنا بك وإليك تباركْتَ وتعالَيْتَ، أستغفِرُك وأتوبُ إليك” – رواه مسلم:1290 –
ثم قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة من الفريضة أوالنافلة، وفاتحةُ الكتابِ كذلكَ من أعظمِ ما عُظِّمَ به اللهُ تبارك وتعالى من القرآن الكريم، فهي ثناء على الله وتضرع ودعاء.
ومن مظاهر تعظيم الله تعالى في الصلاة: تعظيمه سبحانه في الركوع، فهو محلّ التعظيم، لقوله صلى الله عليه وسلم: “أما الركوعُ فعظِّمُوا فيه الربَّ” – رواه أحمد:1801 –
ويصف الإمام ابن القيم معاني تعظيم الله تعالى أثناء الركوع في الصلاة فيقول:”ثم يرجع جاثيًا ظهره خضوعًا لعظمته؛ وتذللًا لعزّته؛ واستكانةً لجبروته، مسبّحًا له بذكر اسمه “العظيم”، منزّهًا عظمته سبحانه عن حال العبد وذلّه وخضوعه؛ ومقابلًا تلك العظمة بهذا الذلّ والإنحناء والخضوع، فهو ركن تعظيمٍ وإجلالٍ، كما قال صلى الله عليه وسلم: “أما الركوع فعظّموا فيه الربّ”
وكذلك الذِكْرُ عند الرفع من الركوع مُنْصَبٌ على تعظيم الله والثناء عليه، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: “اللهم ربَّنا لك الحمدُ ملْءَ السمواتِ ومِلْءَ الأرضِ، ومِلْءَ ما بينهما، وملءَ ما شئتَ من شيءٍ بعدُ، أهلَ الثناءِ والمجدِ، أحقُّ ما قال العبدُ وكلُّنَا لك عبدٌ، اللهمَّ لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا معطيَ لما منعتَ، ولا ينفعُ ذا الجدِّ منك الجدُّ” رواه مسلم:1184.
ثم يهوي إلى السجود على أكمل هيئة وأبلغها في العبودية والتعظيم لله تعالى؛ فيضع ناصيته بالأرض بين يدي ربه راغمًا له أنفه، خاضعًا له قلبه وجوارحه، متذللًا لعظمته، خاضعًا لعزته مستكينًا بين يديه، مسبّحًا له بعلوه، وشُرِعَ له من الذكر ما يناسبه، وهو قول: “سبحان ربيَ الأعلى”.
ثم يختم الصلاة بالجلوس للتشهد قبل الانصراف من الصلاة وهو من مواضع التعظيم لله تعالى، حيث شُرع للمصلي الجلوس بين يدي ربه جلسة المتخشع المتذلل المستكين جاثياً على ركبتيه، مثنياً عليه بأفضل التحيات وأكملها، والتي لا تصلح إلا له، ولا تليق بغيره، وأصحّ ما ورد فيها: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:“.. فَإِذَا صَلَّى أحَدُكُمْ، فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ والصَّلَوَاتُ والطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أيُّها النبيُّ ورَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وعلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فإنَّكُمْ إذَا قُلتُمُوهَا أصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ في السَّمَاءِ والأرْضِ، أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسولُهُ” رواه البخاري:831.
فيكون ختام الصلاة بألفاظ التحيات المتضمنة الثناء والتمجيد والتعظيم لله تعالى ثم التقرب إليه بالصلاة والسلام على خير خلقه وخاتم رسله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
– تعظيم قدر الصلاة: محمد بن نصر المروزيّ
– وما قدروا الله حق قدره:عبد العزيز بن ناصر الجُلَيّل