تلازم خُلُق الحياء مع تعظيم الله تعالى
متى امتلأ قلب المؤمن بتعظيم الله تعالى أينعت ثمرات التعظيم في قلبه، وظهرت في أخلاقه وسلوكه، ومن أكثر هذه الأخلاق تلازمًا مع تعظيم الله تعالى خُلُق (الحياء)، فهو خُلق الإسلام وشارته كما قال ﷺ: «إنَّ لِكُلِّ دينٍ خُلُقًا، وإنَّ خُلُقَ الإسلامِ الحياءُ» [أخرجه ابن ماجة: 4182].
ومن أسرار هذا التلازم أنّ الحياء صِفَة مِن صِفَات الله عزّ وَجَلّ، فعن يعلى بن أمية قال: قال رسول الله ﷺ: «إنَّ اللَّهَ حييٌّ سِتِّيرٌ يحبُّ الحياءَ والتَّستُّرَ فإذا اغتسلَ أحدُكم فليستتِر» [ابن حجر – هداية الرواة: 236/1]. قال ابن القيم رحمه الله: “ومَن وَافَق الله في صِفَه مِن صِفاته قَادته تلك الصِّفَة إليه بِزِمَامه، وصَـيَّرَته مَحْبَوبًا له، فإنه سبحانه حيي يُحِبّ أهل الحياء”، وفي الحديثِ: إثباتُ صِفةِ الحِلمِ والحَياءِ والسَّترِ للهِ عزَّ وجلَّ بما يَليقُ بذاتِه وجَلالِه، في غَيرِ مُشابَهةٍ للعبادِ، وأنه سبحانه يحب من عباده التَّحلِّي بصِفَتَي الحَياءِ والسَّترِ.
وإذا عظّم المؤمن ربّه جلّ وعلا بمعرفة اسمه (الحيي)، ازداد تعظيمًا لربه وحياءً منه أن يعصيه:
قال ابن القيم في قصيدته النونية:
وَهُو الحَيِيُّ فَلَيْسَ يَفْضَحُ عَبْدَهُ عِنْدَ التَّجَاهُرِ مِنْهُ بِالعِصْيَانِ
لَكِنَّهُ يُلقِي عَلَيْهِ سَتْرَهُ فَهُوَ السَّتِيرُ وَصَاحِبُ الغُفْرَانِ
وحياؤُه تعالى وصفٌ يَليقُ به، ليس كحياءِ المخلوقينَ الَّذي هو تغيُّرٌ وانكِسارٌ يعتري الشَّخصَ عند خوفِ ما يُعابُ أو يُذَمُّ، بل هو تركُ ما ليس يتناسَبُ مع سَعةِ رحمتِه، وكمالِ جُودِه وكرَمِه، وعظيمِ عَفوِه وحِلمِه؛ فالعبدُ يُجاهِرُه بالمعصيةِ مع أنَّه أفقرُ شيءٍ إليه وأضعَفُه لديه، ويستعينُ بنِعمِه على معصيتِه، ولكنَّ الرَّبَّ سُبحانَه مع كمالِ غِناهُ وتمامِ قدرتِه عليه يستحي مِن هَتْكِ سِترِه وفضيحتِه، فيستُرُه بما يُهيِّئُه له مِن أسبابِ السَّترِ، ثمَّ بعد ذلك يعفو عنه ويغفِرُ.[1]
ثم يتولد هذا التلازم المبارك بين تعظيم العبد لله تبارك وتعالى وبين تنامي خُلُق الحياء في نفس المؤمن:
قال الإمام المروزي: “إذا ثبت تعظيم الله في قلب العبد أورثه الحياء من الله والهيْبة له، فغلب على قلبه ذكْرُ اطّلاع الله العظيم ونظره بعظمته وجلاله إلى ما قلبه وجوارحه، وذَكَرَ المُقام غدًا بين يديه وسؤاله إياه عن جميع أعمال قلبه وجوارحه، وذكْر دوام إحسانه إليه وقله الشكر منه لربه، فإذا غلب ذِكْرُ هذه الأمور على قلبه؛ هاج منه الحياءُ من الله، فاستحى من الله أن يطّلع على قلبه، وهو معتقد لشيءٍ مما يكره أو على جارحة من جوارحه تتحرك بما يكره، فطهّر قلبه من كل معصية، ومنع جوارحه من جميع معاصيه”.
وجوهر خُلُق الحياء أنه: خُلقٌ يَمنَحُه اللهُ تعالى للعَبدِ، يَمنَعُه مِن ارتكابِ القبائحِ والرَّذائلِ، ويَدفَعُه على فِعلِ الفَضائلِ، وقد خصّه النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر بعد إجمال شعب الإيمان؛ لأنه كالداعي إلى باقي الشُعب، والمحرّض على فعلها، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:”قال رسول الله ﷺ: «الإِيمانُ بضْعٌ وسَبْعُونَ، أوْ بضْعٌ وسِتُّونَ، شُعْبَةً، فأفْضَلُها قَوْلُ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَدْناها إماطَةُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ، والْحَياءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمانِ» [رواه مسلم:35 ].
وقد تكررت وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالحياء من الله متلازمًا مع استشعار تعظيمه جلّ وعلا:
عَنْ سَعِيدِ بن يَزِيدَ الأَزْدِيِّ، أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: أَوْصِنِي، قَالَ: «أُوصِيكَ أَنْ تَسْتَحِيَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا تَسْتَحِي مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ» [رواه أحمد في الزهد: 46]، قال العلامة المناوي:” قال ابن جرير: هذه أبلغ موعظة وأبْين دلالة بأوجز إيجاز، وأوضح بيان، إذ لا أحد من الفسقة إلا وهو يستحي من عمل القبيح عن أعين أهل الصلاح، وذوي الهيئات والفضل؛ أن يراه وهو فاعله، والله مطلع على جميع أفعال خلقه، فالعبد إذا استحى من ربه استحياءه من رجل صالح من قومه؛ تجنَّب جميع المعاصي الظاهرة، والباطنة، فيا لها مِن وصية، ما أبلغها، وموعظة ما أجمعها” [فيض القدير: 3/74].
وكان هذا التلازم واضحًا في أخلاق الأنبياء عليم الصلاة والسلام، والصالحين من أتباعهم:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «كانَ النَّبيُّ ﷺ أشَدَّ حَيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ في خِدْرِهَا» [رواه البخاري: 3562]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ: «إنَّ مُوسَى كانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا، لا يُرَى مِن جِلْدِهِ شَيءٌ اسْتِحْيَاءً منه» [رواه البخاري: 3404].
وعن علقمة بن مرثد قال: “كان الأسود يجتهد في العبادة، ويصوم حتى يخضر ويصفر، فلما احتضر بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ فقال: ما لي لا أجزع، والله لو أتيت بالمغفرة من الله لأهمني الحياء منه مما قد صنعت، إن الرجل ليكون بينه وبين آخر الذنب الصغير فيعفو عنه، فلا يزال مستحيا منه”. [سير أعلام النبلاء: 4/53].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
– سير أعلام النبلاء:شمس الدين الذهبي
– تعظيم قدر الصلاة:محمد بن نصر المروزي
– وما قدروا الله حق قدره:عبد العزيز ناصر الجُلَيّل
[1] انظر: شرح القصيدة النونية 2/80.