التفكرُ سبيلُ تعظيمِ الخالقِ سُبحانَهُ وتعَالى
إنّ تعظيم الله تعالى هو أكبر ضابط للسلوك الإنساني؛ وامتلاءُ القلب بهذا التعظيم له أثرٌ مباشر على استقامة المؤمن، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ [الأعراف:201].
وقد أظهر الله تعالى في الكون من الآيات الباهرة المشاهَدة في عالم الحسّ ما يدل قطعًا على وحدانيته، وربوبيته، وأسمائه، وصفاته، وأنه على كل شيء قدير، ولا يُصلح قلب المؤمن مثل التفكر؛ فينطبع فيه من مشاهد العَظَمَة والقدرة ما يصلحه، فيخضع بالتعظيم والخشية لله وحده سبحانه وتعالى.
والتفكر في الآيات الكونية ينمي تعظيم الله في ربوبيته وألوهيته، كما مدح الله بهذا عباده وسمّاهم أولوا الألباب، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)﴾ [آل عمران:191،190].
رُويَ عن أبو الدرداء أنه قال:”تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ “. – رواه البيهقي:117 – ، وعن عون بن عبد الله قال: “قلت لأم الدرداء: أيّ عبادة أبي الدرداء كان أكثر؟ قالت: “التفكّر والاعتبار”. – حلية الأولياء:ج1/209 –
ويحكي الإمام ابن الجوزي رحمه الله عن تأثره برؤية الجبال، فيقول: ” سرنا على طريق خيبر، فرأيت من الجبال الهائلة، والطرق العجيبة ما أذهلني، وزادت عظمة الخالق عز وجل في صدري، فصار يعرض لي عند ذكر تلك الطرق نوع تعظيم، لا أجده عند ذكر غيرها”. – صيد الخاطر:169 –
ويزداد المؤمن تعظيمًا لله تعالى بالتفكّر في الأنفس وما حوت من آيات الخلقِ والتدبير، قال تعالى: ﴿ وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾.
قال قتادة:”من تفكر في خلق نفسه؛ عرف أنه إنما لُيِّنتْ مفاصله للعبادة” – تفسير ابن كثير:الذاريات/21 – ، وقال عطاء عن ابن عباس : يريد اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع . – تفسير البغوي/الذاريات – فسبحان من خلق هذا الخلق وسيّرهم وأقدرهم وسخّر بعضهم لبعض وصرّفهم في فنون المعايش والمكاسب، وفاوت بينهم في السعادة والشقاوة، وهو سبحانه يدبّر أمرهم جميعًا بقدرته وحكمته وعلمه سبحانه وتعالى.
وتعظيم الله تعالى في أسمائه وصفاته يحصل بكثرة التفكر في النعم، قال تعالى: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ﴾ [النحل:53] ، وقال تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النحل:18].
قال أبو سليمان الداراني:” إني لأخرج من منزلي، فما يقع بصري على شيء، إلا رأيت لله علي فيه نعمة، ولي فيه عبرة” – رواه ابن أبي الدنيا/التفكر والاعتبار – ، فيظل المؤمن يعظّم الله تعالى ويعرفه بأسمائه:المنعم والمقيت والرازق والرزّاق والمعطي والوهّاب، وغيرها من أسماء ذي الجلال وصفاته سبحانه.
ومن أنفع التفكر للمؤمن: التفكر في آيات القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص:29].
وقد كان من هدْي النبي صلى الله عليه وسلم تدبرُ القرآن والوقوفُ عند عجائبه، وترديد آياته مع البكاء والخشوع عن عبدِ اللهِ بنِ الشِّخِّيرِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: “رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُصلِّي وفي صدرِه أزيزٌ كأزيزِ الرَّحى مِنَ البكاءِ” [صحيح أبي داود: 904].
وربما قام صلى الله عليه وسلم بآية يرددها إلى الصباح، عن أبي ذَرٍّ الغِفاريّ رضِيَ اللهُ عنه قال: “قام النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بآيةٍ حتَّى أصبَحَ يُردِّدُها: ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة:118]” [صحيح ابن ماجة: 1118].، وقال محمد بن كعب القرظي: “لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح ب (إذا زلزلت، والقارعة) لا أزيد عليهما وأتردد فيهما وأتفكر أحب إلى من أن أهذّ القرآن ليلتي هذًا” – صفة الصفوة:ج!/375 –
يقول ابن القيم رحمه الله: “فإذا قرأ القرآن بتفكرٍ فمرّ بآيةٍ وهو محتاج إليها في شفاء قلبه، كررها ولو مائة مرة ولو ليلة؛ فقراءة آيةٍ بتفكر وتفهّم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهّم، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان”.
وكم يعظّم المؤمن ربًه وهو يتفكّر في قصص الأنبياء مع اقوامهم، وما فيها من العبرة وجريان سنن الله تعالى في التدافع بين الحق والباطل، وأن العاقبة والنصر والتمكين للأنبياء وأتباعهم من المؤمنين، قال تعالى: ﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [آل عمران:137].
قال شيخ الإسلام:”وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم لتكون عبرة لنا . فنشبه حالنا بحالهم ونقيس أواخر الأمم بأوائلها .” – مجموع الفتاوى:28/424 –
إوبذلك يتضح أنّ معرفة الله تعالى وتعظيمه على الله تعالى هو المقصود الأسمى والمطلوب الأهم من عبادة التفكُّر، وهو الغاية الجامعة لما سواها من غايات التفكُّر، وما سلك العابدون طريقًا إلى تعظيم ربهم أسرع ولا أرحب من التفكُّر.
فاللهم وفِّقنا للتفكُّر في آياتك، تفكُّر اً يملؤ قلوبنا تعظيمًا لجلالك ويقيم جوارحنا على طاعتك يا أرحم الراحمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
– الزهد والرقائق:عبد الله بن المبارك
– تفسير القرآن العظيم: إسماعيل بن كثير
– أفلا تتفكرون:عبد العزيز بن ناصر الجُليّل