التفكر في آيات الله تعالى يثمر توحيده وتعظيمه
أنعم الله تعالى على بني آدم بنعمة العقل، واختصّهم بها؛ ليعرفوه سبحانه، ويستدلون بآياته العظيمة على وحدانيته، فيعبدونه وحده ويعظّمونه، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأعراف:185] فهي زاخرة بالآيات التي تدل على الله تعالى أكمل الدلالة، وتثبت وحدانيته وقدرته، ومشيئته وحكمته، وفضله ورحمته.
وقد شنّع الله عزّ وجلّ على أولئك الذين عطّلوا عقولهم عن التفكّر والنظر في آيات الله، قال تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف:179] فلهم عقولٌ ولكن لا يتفكرون بها في آيات الله، ولا يتدبرون بها أدلته على وحدانيته وعظمته.
والقرآن الكريم يوجّه القارئ إلى عبادة التفكّر لأنها من غايات نزوله ومن ثمرات تلاوته: يقول الزركشي: “القرآن كله لم ينزله الله تعالى إلا لِيُفْقَه ويُعْلَم ويُفْهَم، ولذلك خاطب به أولي الألباب الذين يعقلون، والذين يعلمون، والذين يفقهون، والذين يتفكرون ليدَّبَرُوا آياته وليتذكر أولوا الألباب” [البرهان: 2/160].
ففيه الأمر والحضُّ على النظر والتفكّر في آيات الله تعالى المشهودة في الآفاق والأنفس، والآلاء والنعم، وسير الأنبياء مع أقوامهم، والنظر فيما قدمت النفس ليوم معادها، والتفكر في الدنيا والآخرة، وكل هذا التفكّر ينتهي إلى اليقين بالتوحيد، والخضوع بالتعظيم لرب العالمين.
قال ابن العربي: “أمر الله تعالى بالنظر في آياته والاعتبار بمخلوقاته في أعداد كثيرة من آي القرآن، أراد بذلك زيادةً في اليقين وقوةً في الإيمان، وتثبيتا للقلوب على التوحيد”. [زاد الواعظين].
ومجالات التفكّر متعددة، منها:
– الأمر بالتفكّر في آيات الله تعالى المقروءة وهي القرآن الكريم:
قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء:82] قال الشيخ السعدي: “والتدبّر يصل بالعبد إلى درجة اليقين والعلم بأنه كلام الله، لأنه يراه يصدق بعضه بعضًا، ويوافق بعضه بعضًا، ولما كان من عند الله لم يكن فيه اختلافٌ أصلًا”.
قال ابن القيم: “فإذا قرأ العبد القرآن بتفكر حتى مر بآية وهو محتاجًا إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة ولو ليلة كاملة، فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن، وهذه كانت عادة السلف، يردد أحدهم الآية الى الصباح؛ فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب” [مفتاح دار السعادة:1/187].
– ومنها ما دعا القرآن إليه من التفكّر بالمقاييس العقلية لإثبات وحدانية الخالق جلّ وعلا، في قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور:35 ].
وهذا يتضمن برهانًا عقليًا واضحًا مختصرًا على إثبات تفرد الله تعالى بالخلق والإيجاد، فلا يستحق أحد أن يتوجه إليه الخلق بالعبادة غيره سبحانه وتعالى.
فهذا الكوْن العظيم المتسع إما أن يكون خُلِقَ من عدم أي من لاشيء، أو أن هذا الكون خَلَقَ نفسه بنفسه، ولا شك في بطلان هذين الاحتمالين، فلم يبق إلا الاحتمال الثالث، والذي ترك الله سبحانه ذكرَه لوضوحه وجلائه، ولكي يصل إليه الإنسان بقليل من التأمل والتفكر، وهو أن لهذا الكون خالقًا ورباً وإلهاً.
– التفكر في النعم وكثرتها التي لا يحصيها العادّ:
وهذه النعم لا يحصيها العادّ، قال تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النحل:18].
﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل:53] فالمنفرد بالعطاء على الحقيقة هو الله تعالى لا أحد يشركه في ذلك، ولذلك لا تنبغي العبادة إلا له وحده سبحانه وتعالى.
– التفكر في آيات الله تعالى في الآفاق المرئية لذوي العقول والأبصار:
ومثاله قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة:164]
قال شارح الطحاوية: “وانتظام أمر العالم كله وإحكام أمره من أدل دليل على أن مدبره إله واحد، وملك واحد، ورب واحد لا إله للخلق غيره ولا رب لهم سواه”.
– التفكر في خلق النفس، قال تعالى: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات:21]
قال شيخ الإسلام:”وهذا من أظهر المعارف الضرورية، فإن الإنسان بعد قوته ووجوده لا يقدر أن يزيد في ذاته عضوًا ولا قدرًا، فلا يقصر الطويل، ولا يطول القصير، ولا يجعل رأسه أكبر مما هو ولا أصغر، وكذلك أبواه لا يقدران على شيء من ذلك” [مجموع الفتاوى: 5/358].
إنّ عبادة التفكر هي سبيل الوصول إلى معرفة الله تعالى واليقين بوحدانيته وتعظيمه قولًا وعملًا ووجدانًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
– العقيدة في الله:د.عمر سليمان الأشقر
– أفلا تتفكرون:عبد العزيز ناصر الجُلَيّل