التجرؤ على الفتوى من ضعف التعظيم لله تعالى
ترجع أهمية الفتوى إلى أن العلماء المفتون بمثابة الموقعين عن الله تعالى عند خلقه من المتعلمين والمحتاجين إلى الفتوى من عوام الناس، فهم ورثة علم النبوة، القائمون بأمانة التبليغ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثُوا دينارًا ولا درهمًا، ورَّثُوا العِلمَ فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافرٍ)) [أخرجه أبو داود: 3641].
وأساس التوفيق لإصابة الحق في الفتوى هو: تعظيم الله تعالى والإخلاص له، يقول ابن القيم رحمه الله: (وصحّةُ الفهم نورٌ يقذفه الله في قلب العبد، يميِّز به بين الصحيح والفاسد، والحقِّ والباطل، والهدى والضلال، والغيّ والرشاد. ويُمِدُّه حسنُ القصد، وتحرِّي الحق، وتقوى الربِّ في السرِّ والعلانية. ويقطع مادَّتَه اتباعُ الهوى، وإيثارُ الدنيا، وطلبُ محمَدة الخلق، وتركُ التقوى).
والتجرؤ على الفتوى بغير علم من كبائر الذنوب، لأنه يتضمنُّ الكذبَ على الله تعالى ورسوله، ويتضمن إضلال الناس؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف:33]، فتأمل كيف بدأت الآية بأهون المحرمات وخُتِمَتْ بأعظمها، فالقول على الله بغير علم إثمه خطير؛ لأنه بمثابة توقيع عن رب العالمين، قال ابن القيم رحمه الله: “وكلِّ قولٍ على الله، لم يأتِ به نَصٌّ عنه ولا عن رسولِه؛ في تحريمٍ أو تحليلٍ، أو إيجابٍ أو إسقاطٍ، أو خبرٍ عنه باسْمٍ أو صِفةٍ، نفيًا أو إثباتًا، أو خبرًا عن فِعلِه؛ فالقَولُ عليه بلا عِلمٍ حرامٌ في أفعالِه وصِفاتِه ودِينِه”.
وانتشار التساهل في الفتوى من صور قبض العلم التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنها، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله لا يقبِضُ العلم انتزاعًا ينتزعه مِن العباد، ولكن يقبض العلمَ بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا، اتخذ الناسُ رؤوسًا جهَّالًا، فسُئلوا، فأفتَوا بغير علم؛ فضلُّوا وأضلُّوا)) [أخرجه الترمذي: 2652].
وإنا لنعجَبُ من حال السلف الصالح من الصحابة والتابعين مع قضية الفتوى والإفتاء، فعلى الرغم من أنهم أقرب الناس عهدًا بخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وهمُ الذين ورثوا علم الكتاب والسنة وبلغوه إلى الأمة بكل أمانة، إلا أنهم كانوا يتهيبون من مقام الفتوى ويخافون من الوقوع في الإفتاء بغير علم، وما ذلك إلا لأنهم كانوا معظمّين لله تعالى حافظين لأمانة العلم والتبليغ، عن عبدالرحمن بن أبي ليلي قال: “أدركتُ عشرين ومائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – أراه قال في المسجد – فما كان منهم محدِّث إلا ودَّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا مُفْتٍ إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا” [الزهد والرقائق: 1/19].
وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنهم ـ: أن رجلًا جاءه ليسأله عن مسألة، فقال القاسم: لا أُحسِنه، فقال الرجل: إني لا أعرف أحدًا غيرك، فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي، وكثرة الناس حولي، والله ما أُحسِنه. فقال شيخ من قريش كان جالسًا: يا ابنَ أخي، إلزَمْها؛ فوالله ما رأيتك في مجلس أنبلَ منك اليوم، قال القاسم: والله لأن يُقطَعَ لساني أحبُّ إليَّ مِن أتكلم بما لا علم لي به.
وكانوا يحذرون تلاميذهم من التسرع في الإفتاء في كل مسألة أو التجرؤ على الفتوى دون إحكام العلم بها، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: “أيها الناس، مَن سُئل عن علم يعلَمه فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم؛ فإنّ مِن العلم أن يقول لِما لا يعلم: الله أعلم” [صحيح ابن حبان: 6585]، وعن محمد بن المنكدر أنه قال: “إنّ العالم بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم”.
وإذا ضعف تعظيم الله تعالى في القلب، أفسحت مكانًا لعوارضِ الهوى مثل: الحرج من قول “لا أعلم”، أو الخشية من مظنة الجهل، أو الانتصار لمذهبٍ أو شيخٍ وهو يعلم أن الحق بخلافه، أو طلبًا لدنيا، وكل هذه الأهواء مردّها إلى ضعف تعظيم الله تعالى، وهي مهلكةٌ لصاحبها، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أُفْتِيَ بفُتيا غيرِ ثبتٍ فإنما إثمهُ على منْ أفتاهُ)) [أخرجه ابن ماجة: 53]، وكان ابن عمرَ رضي الله عنهما سُئل عن شيءٍ، فقال: “لا أدري”، ثم أتبعها، فقال: “أتريدون أن تجعَلوا ظهورنا لكم جسورًا في جهنَّم، أن تقولوا: أفتانا ابنُ عمرَ بهذا؟!”، وكان محمد بن عجلان يقول:”إذا أغفل العالم:(لا أدري)، أُصيبَ في مقاتلِهِ”.
فهذا شأنُ أهل العلم والفضل، المشهودِ لهم بالإمامة في العلم والدين، والذين امتلأت قلوبهم بتعظيم الله تعالى وأدركوا مسؤلية البلاغ عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
– الزهد والرقائق:عبد الله بن المبارك
– إعلام الموقعين عن رب العالمين:ابن قيم الجوزية
– الفقيه والمتفقه:الخطيب البغدادي
– وما قدروا الله حق قدره:عبد العزيز بن ناصر الجُليل