معالم تعظيم الله تعالى في سورة الكافرون
لا يتمُّ تعظيم المؤمن لله تعالى حتى يتبرأ من الكفر والشرك، فما قدرَ الله حقّ قدْرِهِ، ولا عظّمه حق تعظيمهِ منْ أشركَ معه أحدًا من خلقه، وقد نزلت سورة “الكافرون” براءةً من الكفرِ والشركِ، وجوابًا فصْلًا، وردًا حاسمًا على سفاهة المشركين الذين ما لانت قلوبهم لعظمة الله قيد شعرة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: “أن قريشًا وعدوا رسول الله ﷺ أنْ يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة، ويزّوجوه ما أراد من النساء، ويطئوا عقبه، فقالوا له: هذا لك عندنا يا محمد، وكُفّ عن شتم آلهتنا، فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة، فهي لك ولنا فيها صلاح. قال: ما هي؟ قالوا: تعبد آلهتنا سنة، اللات والعزى، ونعبد إلهك سنة.
ورغم أن الجواب على ذاك الاقتراح الساذج يكاد يكون بديهياً بالرفض، إلا أن النبي ﷺ ما كان ليقدم بين يدي ربه جوابًا قبل أن يأتيه الوحي، تعظيمًا وإجلالاً لمقام الله تعالى. فقال: “حتى أنْظُرَ ما يأْتي مِنْ عِنْدِ رَبّي”، فجاء الوحيُ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾، ونزل قول الله تعالى: ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ﴾ [الزمر:64]، فكيف يستقيم في قلب مؤمن امتلأ قلبه حبًّا وعبادةً وإجلالاً لله تعالى أن يجد مكاناً فيه لأي آلهة أخرى باطلة؟! “– رواه ابن أبي حاتم:10/3471 –
لذا وصف ابن عباس رضي الله عنه تلك السورة بأنها: “لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَشَدُّ غَيْظًا لِإِبْلِيسَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا تَوْحِيدٌ وَبَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ”.
وتلك السورة الشريفة حجةٌ دامغة في وصف العقيدة الصحيحة للمؤمن وتبرأه التام من الشرك، وإن كان الأمر في مطلعها موجهًا للنبي ﷺ: ﴿قُلْ﴾، إلا أنه خطابٌ لكل مؤمن يقرؤها؛ فتوحيد الله تعالى لا يكتمل حتى يتبرأ المسلم من الشرك كله، صغيره وكبيره، قال تعالى: ﴿فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:256].
ومن صور تعظيم الله بتلك السورة، وصية النبي ﷺ بقراءتها عند النوم، لأنها براءةٌ من الشرك، فإذا انتهى أَجَلُ المؤمن في نومه؛ لقيَ الله وهو بريء من الشرك، فعن فرْوَة بن نوْفل رضي الله عنه أنه قال للنبي ﷺ: مُرْنِي بشيءٍ أقوله! فقال ﷺ: ((إِذَا أَوَيْتَ إِلَى مَضْجَعِكَ، فَاقْرَأْ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ إِلَى خاَتِمَتِهَا؛ فَإنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشَّركِ)) -أخرجه أبو داود:5055 –.
ومن معالم تعظيم الله تعالى في سورة “الكافرون”: التكرار ودلالاته البيانية في مباينة الكفر والشرك بكل صوره:
قال الفرّاء:”إن القرآن نزل بلغة العرب، ومن عادتهم تكرير الكلام للتأكيد والإفهام، ومنه قول الله تعالى: ﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [التكاثر:4،3]”، وذكرَ الأخفشُ فائدةً في هذا التكرار، فقال: (وَبَيَانُهَا: لَا أَعْبُدُ السَّاعَةَ مَا تَعْبُدُونَ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ السَّاعَةَ مَا أَعْبُدُ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا عَبَدْتُمْ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا أَعْبُد، أي: لأن عبادتي خالصة لله وحده، وعبادتكم مشوبة بالشرك، مصحوبة بالجهل بعظمة الله تعالى؛ فلا تسمى على الحقيقة عبادة) .
فهذا التكرار يفيد توكيد براءة النبي ﷺ من ملةِ الكفر والشرك، ويلقي في روْع الكفّار اليأس من الالتقاء معه لا الآن ولا في المستقبل؛ فحينئذٍ لا يبقى مجالٌ لأي مظنة أو شبهة، بل تنقطع أطماع الكافرين، ويتحققون بأنهم باقون على الكفر أبدًا، والرسول ﷺ باقٍ على عبادة ربه أبدًا.
ثم تأتي معالم التعظيم في خاتمة السورة الشريفة، بالقول الحاسم في مباينة الكفار ومفاصلتهم في قوله تعالى: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ والتبرؤ من الكفر والشرك سابقًا ولاحقًا، وإِعْلَانُ المفاصلة والبراءة التَّامّة مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُم بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [يونس:41]، فأنتم لكم دين الكفر، وأنا لي دين التوحيد، والإسلام، وَمَنْهَجُ التَّوْحِيدِ وَمَنْهَجُ الشِّرْكِ لَا يَلْتَقِيانِ، فَالتَّوْحِيدُ هُوَ سَبِيلُ اللهِ، وَسَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْكُفْرُ بِكَافَّةِ طُرُقِهِ وَسُبُلِهِ وَمَنَاهِجهِ الْمُخْتَلِفَةِ هو مَنْهَجٌ الباطل، وَلَيْسَ فِي هَذَا إِقْرَارٌ لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّرْهِيبُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ﴾.
وتكتمل معاني التعظيم لله تعالى في سورة “الكافرون” عند اقتران قراءتها بسورة “الإخلاص” في الصلوات التي سَنَّ فيها النبي صلى الله عليه وسلم القراءة بهما، ومدح القارئ بهما:
عن جابر رضي الله عنه أنَّ رجُلًا قامَ فركَعَ رَكعتَيِ الفَجرِ فَقرأَ في الرَّكعةِ الأُولى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ حتَّى انْقَضَت السُّورةُ، فقال النَّبيُّ ﷺ: “هذا عَبدٌ عَرَفَ رَبَّه”، وقرأَ في الآخرةِ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ حتَّى انقَضَت السُّورةُ، فقال النَّبيُّ ﷺ: ((هذا عَبدٌ آمَنَ برَبِّه)) – أخرجه ابن حبان:2460 –
فمن السُنَّة الثابتة عن النبي ﷺ، أنه كان يقرأ بالسورتيْن الشريفتيْن في النافلة، عدة مرات في كل يومٍ وليلة، عن أبي هُرَيرةَ رضيَ الله عنه: أنَّ رَسولَ الله ﷺ قَرأَ في رَكعتَيِ الفَجرِ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ و ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ – أخرجه مسلم:726 –، وكان يقرأ بهما في الركعتين بعد المغرب، وفي خاتمة الوتر، وفي ركعتيْ الطواف. وتكرارهما في هذه الصلوات، يسلِّمُ صاحِبَهما مِن الشِّركِ باللهِ تعالى؛ ويثبّت التوحيد في قلبه بإذن الله، ويزيده تعظيمًا وإجلالًا لله الواحد الأحد العليّ العظيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
– تفسير القرآن العظيم: الحافظ ابن كثير
– وما قدروا الله حق قدره:عبد العزيز بن ناصر الجُليّل