الله: الرب المالك
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَوْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ، فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ تَعَجُّبًا مِمَّا قَالَ الْحَبْرُ، تَصْدِيقًا لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الزمر:67]([1]).
فالله هو الملك العظيم: المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا مبالغة ولا مدافعة”([2]).
ولكل اسم من أسماء الله (الملك) و(المالك)نوع أخصيّة لا يوجد في الآخر:
فالمالك: يَقْدر على مالا يقدر عليه المَلِك من التصرّفات، بما هو مالك له.
والمَلِك: يقدر على ما لا يقدر عليه المالك؛ مِنَ التصرفات العائدة إلى تدبير المُلك وحياطته، ورعاية مصالح الرعية.
والفَرْق بين الوصفين بالنسبة إلى الربّ سبحانه: أنّ الملك صفة لذاته، والمالك صفة لفعله.
وحقيقة الملك العظيم: إنما تتم بالعطاء والمنع؛ والإكرام والإهانة؛ والإثابة والعقوبة؛ والغضب والرضا؛ والتولية والعزل؛ وإعزاز من يليق به العِزُّ، وإذلال من يليق به الذلُّ. قال تعالى: { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) } [آل عمرن: 26- 27].
ومن تمام ملكه وجلال عظمته سبحانه وتعالى أنه يغفر ذنبًا؛ ويُفرّج كربًا؛ ويكشف غمًا، وينصر مظلومًا؛ ويأخذ ظالمًا، ويفكُّ عانيًا؛ ويُغني فقيرًا، ويجبر كسيرًا؛ ويشفي مريضًا، ويُقيل عثرةً؛ ويستر عورةً، ويُعِزُّ ذليلاً؛ ويُذِلُّ عزيزًا؛ ويُعطي سائلاً، ويُذهب بدولةٍ ويأتي بأخرى؛ ويداول الأيام بين الناس؛ ويرفع أقوامًا ويضع آخرين، ويسوق المقادير التي قدَّرها قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف عامٍ إلى مواقيتها؛ فلا يتقدَّم شيءٌ منها عن وقته ولا يتأخَّر، بل كلُّ منها قد أحصاه كما أحصاه كتابه؛ وجرى به قلمه؛ ونفذ فيه حكمه؛ وسبق به علمه، فهو المتصرِّف في الممالك كلِّها وحده؛ تصرُّف ملك قادرٍ قاهرٍ، عادلٍ رحيم، تامُّ الملك؛ لا يُنازعه في ملكه منازعٌ؛ ولا يُعارضه فيه معارضٌ، فتصرُّفه في المملكة دائرٌ بين العدل والإحسان؛ والحكمة والمصلحة والرحمة؛ فلا يخرج تصرُّفه عن ذلك([3]).
وهذا الملك العظيم لله تعالى يتصرف فيه سبحانه بعلمه وحكمته ورحمته وعدله، فله الحمد في ملكه وخلقه وفي أفعاله وصفاته كلها.
ولما كان المُلك الحقّ لله وحْده، ولا مَلكَ على الحقيقة سواه، كان أوْضعَ اسمٍ عند الله، وأغْضبَه له اسمُ” شَاهان شاه” أي: ملكُ الملوك؛ فإنَّ ذلك ليس لأحدٍ غير الله.
والله – عز وجل – مالك يوم الدين، قال تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}؛ لأن هناك من يدعي في الدنيا أنه ملك يأمر وينهى، ويمتلك الضياع والقصور والذهب والفضة، ولكن ملكهم هذا عاريَّة زائلة، فإما أن يزول ملكهم عنهم أو يزولوا عنه، أما يوم الدين والحساب فإن أحدًا لا يدعي أنه يملك شيئًا قال سبحانه عن ملكه يوم القيامة: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان: 26].
وفي يوم القيامة ينادي الرب العظيم سبحانه: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فلا يجيبه أحد؛ فيجيب نفسه بنفسه، سبحانه، { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16].
وملوك الدنيا وإن ادعوا أنهم ملوك؛ فإن ملكهم غير حقيقي، وإنما الملك الحقيقي لله وحده لا شريك له، وكل من ملك شيئًا؛ فإنما بتمليك الله له، والله سبحانه يؤتي ملكه من يشاء، وينزعه عمن يشاء، وملوك الدنيا يحتاجون إلى حجبة وحراس يحمون لهم ملكهم.
وكَانَ ﷺ يُعظِّم ربه باسمه الملك ويَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ إِذَا سَلَّمَ: «لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ» ([4]).
وكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أمسى يُعظِّم ربه مسنداً الملك له، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ ، إِذَا أَمْسَى قَالَ: «أَمْسَيْنَا وَأَمْسَى الْمُلْكُ لِلَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَخَيْرِ مَا فِيهَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ مَا فِيهَا، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ، وَالْهَرَمِ، وَسُوءِ الْكِبَرِ، وَفِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْقَبْرِ»([5]).
فهلا اقتدينا بنبينا ﷺ وعظمنا ربنا باسمه المالك، والملك؟
[1] صحيح مسلم، (2786). والحبر: العالم.
[2] تفسير ابن كثير 4/343.
[3]طريق الهجرتين وباب السعادتين ص228- 229.
[4] صحيح البخاري،( 6330)
[5] صحيح مسلم،( 2723).