اختص الله شهر رمضان بخصائص ليست في غيره، كانت سببًا لزيادة تعظيم الله فيه، ومن هذه الأسباب نزول القرآن الكريم فيه كما قَالَ تَعَاَلَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].
وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1].
وربنا سُبحَانَهُ وَتَعَاَلَى وصف القرآن بالعظيم في آيات عدة منها قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]. وهذا يتضمن عظمة قَدْرِهِ وَعَظَمَةَ صفاته وعظمة من أنزله.
وتعظيم القرآن يشمل جميع الجوانب، العقدية والعملية والعلمية.
ثبت في صحيح مسلم رضي الله عنه عن تميم الداري رضي الله عنه قال: «الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» (رواه مسلم).
قال النوي رَحِمهٌ اللهُ: (قال العلماء رحمهم الله: النصيحة لكتاب الله تعالى: هي الإيمان بأنه كلام الله تعالى، وتنزيله لا يشبهه شيء من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله الخلق بأسرهم ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته وتحسينها والخشوع عندها وإقامة حروفه في التلاوة والذب عنه لتأويل المحرفين وتعرض الطاغين والتصديق بما فيه والوقوف مع أحكامه وتفهم علومه وأمثاله والاعتناء بمواعظه والتفكر في عجائبه والعمل بمحكمه، والتسليم بمتشابهة والبحث عن عمومه وخصوصه وناسخه ومنسوخه ونشر علومه والدعاء إليه وإلى ما ذكرناه من نصيحته).
وتعظيم كتاب الله تعالى، من تعظيم الله عَزَ وَجَلَّ وتوقيره وإجلاله وتقديره.
وإن من أرفع مقامات الأدب مع الله أن تعظِّم كلامه وتُجِلَّه وتُكرمه؛ لأن فضل كلام الله على كلام غيره كفضله هو سبحانه على جميع خلقه، وعلى قدر عظمة القائل يكون تعظيم الكلام.
تعظيم السلف الصالح للقرآن:
والمتتبع لحال السلف الصالح يرى عجبًا في تعظيمهم لكتاب الله فلقد كان الصحابة ومن وبعدهم من السلف الصالح يُجلُّون القرآن ويعظِّمونه بينهم.
ذكر القرطبي رَحِمهٌ اللهُ في تفسيره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (عظِّموا القرآن).
ومن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من لا يقطع قراءته للقرآن مهما كان الحال، كما ورد عن جابر رضي الله عنه قال: خرَجنا معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم – يَعني في غزوةِ ذاتِ الرَّقاع – فأَصابَ رجلٌ امرأةَ رجلٍ منَ المشرِكينَ فحلَفَ أن لا أنتَهيَ حتَّى أُهَريقَ دمًا في أَصحابِ محمَّدٍ، فَخرجَ يتبعُ أثرَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم منزلاً، فقالَ: مَن رجُلٌ يكْلؤُنا؟ فانتَدبَ رجلٌ منَ المُهاجرينَ ورجُلٌ منَ الأنصارِ، فقالَ: كونا بفَمِ الشِّعبِ، قالَ: فَلمَّا خرجَ الرَّجُلانِ غلى فَمَ الشِّعبِ اضطجعَ المُهاجريُّ، وقامَ الأنصاريُّ يصلِّي، وأتى الرَّجلُ فلمَّا رأى شخصَهُ عرفَ أنَّهُ ربيئةٌ للقومِ، فرماهُ بسَهْمٍ فوضعَهُ فيهِ فنزعَهُ، حتَّى رماهُ بثلاثةِ أسهمٍ، ثمَّ رَكَعَ وسجدَ، ثمَّ انتبَهَ صاحبُهُ، فلمَّا عرفَ أنَّهُم قد نذَروا بِهِ هربَ، ولمَّا رأى المُهاجِريُّ ما بالأنصاريِّ منَ الدَّم، قالَ: سُبحانَ اللهِ ألا أنبَهْتَني أوَّلَ ما رمى، قالَ: كنتَ في سورةٍ أقرَؤُها فلَم أحبَّ أن أقطعهَا (رواه أبو داود وحسنه الألباني).
وبعضهم كان يلبس أحسن الثياب عند قراءة القرآن، فهذا أبو العالية رَحِمهٌ اللهُ إذا قرأ القرآن اعتمَّ ولبِس رداءه، واستقبل القبلة، وكان يكره أن يُقال: سورة صغيرة؛ لأن القرآن كله عظيم ولا صغير فيه.
ولما رأى عمر بن عبد العزيز رَحِمهٌ اللهُ ابنًا له يكتب القرآن على حائط ضربه؛ لأن هذا ليس من التعظيم.
وهذا مجاهد رَحِمهٌ اللهُ يقول: إذا تثاءبتَ وأنت تقرأ القرآن، فأمسكْ عن القرآن العظيم حتى يذهب تثاؤبك.
وقال أبو عبيد رَحِمهٌ اللهُ: وهذا كالرجل يريد لقاء صاحبه، أو يهم بالحاجة، فتأتيه من غير طلب، فيقول كالمازح: (جئت على قدر يا موسى) وهذا من الاستخفاف بالقرآن.
ويقول الإمام النووي رَحِمهٌ اللهُ: (أجمع المسلمون على وجوب تعظيم القرآن على الإطلاق وتنزيهه وصيانته وأجمعوا على أن من جحد منه حرفًا مما أجمع عليه أو زاد حرفًا لم يقرأ به أحد وهو عالم بذلك فهو كافر).
قال القاضي عياض رَحِمهٌ اللهُ: (من استخفَّ بالقرآن أو بالمصحَف أو بشيءٍ منه كافِرٌ بإجماع المسلمين).
ولقد شَهِد الأعداء بعظمةِ القرآن وسموِّ معانيه، كما ذكر ابن كثير رَحِمهٌ اللهُ في البداية والنهاية عن عكرمة رَحِمهٌ اللهُ عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً.
قال: لِمَ؟
قال: ليعطوكه فإنك أتيت محمدًا لتعرض ما قبله.
قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالاً.
قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له.
قال: وماذا أقول؟ فو الله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، ووالله أن لقوله الذي يقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلوا ولا يعلى، وإنه ليحكم ما تحته.
قال: لا يرضى عنك قومك حتي تقول فيه.
قال: قف عني حتى أفكر فيه، فلما فكر.
قال: إن هذا إلا سحر يؤثر يأثره عن غيره، فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا* وَبَنِينَ شُهُودًا} [المدثر: 11-13].
ويخبِر الربُّ تَبَارَكَ وَتَعَاَلَى عن عَظمةِ القرآن وجَلاله، وأنْه لو خوطِب به صُمُّ الجبال لتصدَّعت من خشية الله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21].
ولو قارنَّا واقع بعض المسلمين اليوم مع القرآن وتعظيمه، لرأينا صورًا كثيرة من الاستخفاف أو عدم التعظيم؛ فالبعض يمدُّ قدمَه تجاه المصحف، والآخر يجلس على كرسي والمصحف تحته، وثالث يسند ظهره إلى المصحف، والبعض يفترش أوراق الصحف المليئة بآيات القرآن فيجعلها سفرة للطعام، ولا ينبغي امتهان أو استصغار أو احتقار القرآن ولا آية منه.
ونحن اليوم في أمسِّ الحاجة إلى تعظيم القرآن في القلوب في رمضان خاصة وفي باقي السنة عامة.
المقال السادس: مظاهر تعظيم الله في رمضان (6) | كيف يكون تعظيم القرآن الكريم؟