في مقال سابق بينا أن تعظيم الله تعالى من أفضل العبادات، وأَجلّ القربات التي يتعين ترسيخها في القلوب، ولها أثر كبير في تزكية النفوس، وعلى قدر العلم بالله وباسمائه وصفاته وأفعاله يكون التعظيم.
وإن من شرع الله وحكمه أن خصص بعض الأماكن والأزمنة بمزيد فضل، فضاعف فيها الأجر على العمل وحباها بمزيد تعظيمٍ وإجلال تبعًا لتعظيمه وإجلاله.
ومن الأزمنة الفاضلة «شهر رمضان المبارك»، فهو خير الشهور وسيدها، فيه الأعمال والحسنات تُضاعف، وفيض الرحمة الربانية والمنح الإلهية ينتشر ليعمَّ الكون برحمة الله وسعة غفرانه والعتق من نيرانه.
فكيف يكون تعظيمنا لشهر رمضان؟:
(1) من تعظيم شهر رمضان الاستبشار بقدومه، وهذا يأتي في إطار تعظيم شعائر الله، كما قَالَ تَعَاَلَى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، ولا سيما في منعكساته الإيجابية على المسلمين في تقوية الإيمان، والنهوض بالعبادات على النحو المطلوب.
ومن هنا ينبغي أن يفرح المؤمنون بقدوم شهر رمضان، ويستبشروا بحلوله ضيفًا كريمًا بينهم، في أيام معدودات، ويحمدوا الله أن بلَّغهم إياه، ومن ثَمَّ فإن عليهم أن يعقدوا العزم على تعميره بالطاعات، والإكثار من العمل الصالح، وهجر السيئات، تمشيًا مع التوجيه الرباني: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]، وذلك أن محبة الأعمال الصالحة، والاستبشار بها، مناط رضا الله تعالى.
وسلفنا الصالح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم إحسان يهتمون بشهر رمضان، ويفرحون بقدومه.
فكانوا يصومون أيامه، صيام الحافظ لشعيرة الصيام من البطلان، والنقص، فتجدهم يفرون من اللغو واللهو واللعب والغيبة والنميمة والكذب.
وكانوا يحيون لياليه بالقيام، وتلاوة القرآن، وكانوا يتعاهدون فيه الفقراء، والمساكين بالصدقة والإحسان، وإطعام الطعام وتفطير الصوّام.
فرمضان شعيرة عظيمة من شعائر الله، وهو شهر ملئ بشعائر عملية يعظم بها الله عَزَ وَجَلَّ.
(2) يكون بالاجتهاد فيه بسائر أنواع الطاعات، والابتعاد عما يخدش التقوى، ويضيع أجر الصوم، والتفرغ للعبادة فيه بأنواعها، من صيام وصلاة وقيام وصدقة وقراءة قرآن، وتفطير صائمين وبِّر بالوالدين وصلة رحم، وكف أذي اللسان وغض البصر، وغير ذلك من العبادات الفعلية أو التَرّكية.
(3) الوقوف عند حدوده، وإجلال أمر الله تعالى ونهيهه، وترك الطعام والشراب بعض ذلك وليس كله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة ي أن يدع طعامه وشرابه)) (رواه أبو داود وصححه الألباني).
وهذه حقيقة تغيب عن كثير من الصائمين، وتفوت على مفاهيم كثير من العباد ويعتقدون حين تمسي بطونهم خماصًا أنهم نالوا كل شيء، وقد تكون النتيجة بخلاف ما يعتقدون، ورد في الحديث: ((رُبَّ صائمٍ حظُّهُ مِن صيامِهِ الجوعُ والعطَشُ، ورب قائم حظه من قيامه السهر)) (صحيح الترغيب والترهيب).
ومن أهم الأمور صيانة اللسان عن آفاته كلها، وخصوصًا الغيبة لأن هذه المعصية تجرح الصيام وتفرغه من مضمون التقوى، وعظيم الأجر.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «إذا صمتَ فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمأثم، ودع أذي الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواء».
وقال الشيخ ابن عثيمين رَحِمهٌ اللهُ: «إن شئت فقل: الزور: كل قول محرم؛ لأنه ازورَّ عن الطريق المستقيم»، ولعل هذا هو المعني العام الذي فهمه العلماء الذين رووا حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الغزالي رَحِمهٌ اللهُ: «ولا تظن إذا صمت أن الصوم هو ترك الطعام والشراب والوقاع فقط.. بل تمام الصوم بكف الجوارح كلها عما يكره الله تعالى، بل ينبغي أن تحفظ العين عن النظر إلى المكاره، واللسان عن النطق بما لا يعنيك، والأذن عن الاستماع إلى ما حرم الله تعالى، فإن المستمع شريك القائل، وهو أحد المغتابين».
(4) ومن تعظيم شهر رمضان أن ينظر إليه على أنه مما كتبه الله على عباده وفرضه عليهم، وكل أمرٍ كتبه الله وفرضه فلا بد من تعظيمه.
(5) ومن تعظيم شهر رمضان، أن تنظر إلى الصيام على أنه من عظيم باب الرحمات، لما فيه من عظيم الأجور في كثير من الطاعات، إذ أن الصيام كما جاء في الحديث: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) (متفق عليه)، والقيام كما في الحديث: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) (متفق عليه)، وقيام ليلة القدر كما في الحديث: ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) (متفق عليه).
وللحديث بقية
المقال الثالث: مظاهر تعظيم الله في رمضان (3) | تعظيم شهر رمضان من تعظيم شعائر الله