تعظيم ليلة القدر
ومن مظاهر تعظيم الله في رمضان تعظيم ليلة القدر، وهي أعظم ليالي السنة، وسماها الله تعالى ليلة القدر لعظم قدرها وجلالة مكانتها وعلو شرفها بين الليالي عند الله ولكثرة مغفرة الذنوب وستر العيوب فيها فهي ليلة المغفرة، وتجدر الإشارة إلى أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَاَلَى اصطفى من البشر محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ ليكون رسولاً للبشرية واصطفى من الشهور رمضان، ومن الليالي ليلة القدر.
واستمدت هذه الليلة عظمتها من عدة أمور هي:
- نزول القرآن العظيم فيها كما قَالَ تَعَاَلَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، وسميت ليلة القدر من باب التعظيم لأنها ذات قيمة وقدر ومنزلة عند الله تعالى لنزول القرآن فيها كما قَالَ تَعَاَلَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3].
- كون العبادة في ليلة القدر أفضل عند الله من العبادة في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر وذلك لقوله تَبَارَكَ وَتَعَاَلَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر: 2]، وفي هذا تنويهًا بشأنها، وإظهارًا لعظمتها. {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]، أي ثواب قيامها أفضل من ثواب العبادة لمدة ثلاث وثمانين سنة وثلاثة أشهر تقريبًا.
ومعنى كونها خير من ألف شهر، بيان فضلها وأن العبادة فيها مضاعفة كعبادة العابد في ألف شهر، فمن قامها فكأنما قام ألف شهر، ومن ذكر الله فيها أو قرأ القرآن أو دعا فكذلك، وهذا من فضل الله تعالى على هذه الأمة، لما كان أعمارهم أقل وأجسادهم أضعف، عوضهم الله تعالى بمضاعفة الأجر في هذه الليلة والله أعلم.
- نزول جبريل والملائكة عليهم السلام كما قَالَ تَعَاَلَى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4]، وهذا يدل على عظم شأنها وأهميتها لأن نزول جبريل والملائكة لا يكون إلا لأمر عظيم، ويكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة.
وقوله تعالى: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أيّ لا تنزل هذه الملائكة والروح إلا بإذن من الله.
- كون تلك الليلة سلام حتى طلوع الفجر كما قَالَ تَعَاَلَى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5]، فهي ليلة خالية من الشر والأذي، وتكثر فيها الطاعة وأعمال الخير والبر، وتكثر فيها السلامة من العذاب، ولا يخلص الشيطان فيها إلى ما كان يخلص في غيرها، فهي سلام كلها، وهذا يدل على ما فيها من خير عميم وبركة عظيمة، وفضل ليس له مثيل.
- كونها الليلة المباركة كما سمها ربنا بذلك في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3]، ووصفها بالبركة لما ينزل الله فيها على عباده من البركات والخيرات والثواب الشيء الكثير، وتنكير (ليلة) للتعظيم، ووصفها ب (مباركة) تنويه بها وتشويق لمعرفتها، وكم لها من بركات للمسلمين في دينهم، ولعل تلك البركة تسري إلى شؤونهم الصالحة من أمور دنياهم، فهذه الليلة هي الليلة التي ابتدُئ فيها نزول القرآ، على محمد صلى الله عليه وسلم في الغار من جبل حِرَاءٍ في رمضان، وهي ليلة القدر.
- كون قيامها سبب لمغفرة الذنوب، فالعبادة فيها له قدر عظيم، كما ورد الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) (متفق عليه)، فمن قامها ينال بذلك قدرًا لم يكن ناله قبلها، وترفعه شرفًا عند الله تعالى، فعمل العبد فيها ذو قدرٍ عظيم، ففضل هذه الليلة عظيم لمن أحياها، وإحياؤها يكون بالصلاة، وقراءة القرآن، والذكر، والاستغفار، والدعاء، وغير ذلك من العبادات، من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، مع صلاة التراويح والتهجد في وقت السحر.
- أنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة، فيكتب فيها ما سيجري في ذلك العام، وهذا من حكمة الله عَزَ وَجَلَّ وبيان إتقان صنعه وخلقه، قَالَ تَعَاَلَى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4]، أي تقدّر في تلك الليلة مقادير الخلائق على مدى العام، فيكتب فيها الأحياء والأموات والناجون والهالكون والسعداء والأشقياء والعزيز والذليل والجدب والقحط وكل ما أراده الله تعالى في تلك السنة.
- اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في ليالي العشر تحرّي لليلة القدر، فقد ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان، ما لا يجتهد في غيرها)) (رواه مسلم)، ومن ذلك أنه ((كان يعتكف فيها ويتحرى ليلة القدر خلالها)) (رواه البخاري ومسلم)، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((كان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد مئزره)) (رواه البخاري ومسلم)، وزاد مسلم: ((وجَدَّ وشد مئزره)).
- تخصيصها بدعاء معين كما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت، قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي ((اللهم إنك عفو تحب العفو فأعف عني)) (رواه الترمذي وصححه الألباني)، قال ابن رجب: «وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي العشر لأن العارفين يجتهدون في الأعمال ثم لا يرون لأنفسهم عملاً صالحًا ولا حالا ولا مقالا فيرجعون إلى سؤال العفو كحال المذنب المقصر».
- تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الغفلة من ليلة القدر وإهمال إحيائها، فيحرم المسلم من خيرها وثوابها، فيقول لأصحابه، وقد أظلهم شهر رمضان: ((إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِمَها فقد حُرِم الخير كله، ولا يُحرم خيرها إلا محروم)) (رواه ابن ماجه وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير).
المقال الثاني عشر: من مظاهر تعظيم الله في رمضان (12) | تعظيم السلف لليلة القدر