تعظيم السلف الصالح للنصوص الشرعية
السلف الصالح من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، امتلأت قلوبهم إيمانًا بنصوص الشريعة، فلا يسمع أحدهم نصّا إلا كان من المستسلمين له، والمنقادين لما فيه من أمر أو نهي، ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمة الله-: «وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن لا برأيه ولا ذوقه ولا معقوله ولا قياسه، فإنه ثبت عندهم بالبراهين القطعيات، والآيات البيّنات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم».
فالصحابة رضي الله عنهم يسمعون الآيات والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فيسلمون لها على الفور، ويصدقونها واقعًا في حياتهم؛ أخرج البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كُنَّا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو آخِذٌ بيَدِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، فَقالَ له عُمَرُ: يا رِسولَ اللهِ، لأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن كُلِّ شيءٍ إلَّا نَفْسِي، فَقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لَا، والذي نَفْسِي بيَدِهِ، حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْكَ مِن نَفْسِكَ)) فَقالَ له عُمَرُ: فإنَّه الآنَ، واللهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن نَفْسِي، فَقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((الآنَ يا عُمَرُ)). قالها عمر بدون تردد أو تفكير أو مشورة أو تأخير.
إن المؤمنين عظمت في قلوبهم نصوص الوحيين، حتى إنه ليزعجهم أن تقابل آيات الله وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث غيره من البشر؛ أخرج مسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه حدث بحديث: الحياء كله خير، فقال أحدهم مقابلة للحديث: إنا لنجد في بعض الكتب أن سكينة ووقارًا، ومنه ضعف! قال: فغضب عمران، فقال: أحدثك عن رسول الله وتحدثني عن صحيفتك؟! فأعاد عمران الحديث، ثم عاد الرجل مقالته، فغضب عمران حتى احمرت عيناه، فقيل له: إنه منا يا أبا نجيد، إنه لا بأس به، أي ليس ممن يتهم بنفاق أو زندقة.
ورد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: لمَّا استوى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَ الجمعةِ قالَ: اجلسوا. فسمعَ ذلِكَ ابنُ مسعودٍ فجلسَ على بابِ المسجدِ فرآهُ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: تعالَ يا عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ (رواه أبو داود).
وعن عبد الله بن مغفِّل رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله عن الخذف)، وهو رمي الحجارةِ الصغيرةِ بأصابعِ اليد وقال: (إنها لا تصطادُ صيدًا، ولا تنكأ عدوًا ولكنها تفقأُ العينَ وتكسرِ السن، فقال رجلٌ لعبد اللهِ وما بأس بهذا؟ فقال عبد الله إني أحدثك عن رسولِ اللهِ وتقولُ هذا والله لا أُكلِمُكَ أبدًا) (متفق عليه).
وعن سالم بن عبد الله بن عمر: أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تمنعوا نِساءَكُم المسَاجد إذا استأذنَّ إليها)، قال: فقال بلال بن عبد الله بن عمر: والله لنمنعهن، قال: فأقبل عليه عبد الله؛ فسبه سبًا سيئًا ما سمعته سبه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله وتقول: والله لنمنعهنَّ؟؟!!) (رواه مسلم).
وذكر السيوطي رَحِمهٌ اللهُ: أن هارون الرشيد رَحِمهٌ اللهُ ذكر عنده مرة حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث: احتج آدم وموسى، فقال رجل من وجهاء قريش: وأين لقي آدم موسى؟ مستنكر للحديث، فعضب الرشيد، وقال: النطع والسيف، زنديق يطعن في حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
قال من كان حاضرًا: فما زلت أسكنه، أقول: يا أمير المؤمنين كانت منه نادرة، حتى سكن.
وأمثلةُ ذلكَ مما جاءَ عن الصحابة رضي الله عنهم كثيرةٌ جدًا، وعلى نَهجَهم سار أتباعُهم ومن تبعهم من أَئِمة السَلفِ إلى زماننا هذا.
فالتسليم لنصوص الكتاب والسنة ركن عظيم من أركان الدين، ولا تثبت قدم المسلم على الإسلام إلا على هذا الركن العظيم، ومن لم يسلم بالنصوص فإنه حقير، عن الدين القويم بعيد؛ دخل رجل على الشافعي رَحِمهٌ اللهُ فسأله عن مسألة، فأفتاه بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الرجل: أتقول بهذا الحديث؟ فقال الشافعي مغضبًا: أرأيت في وسطي زنارًا؟ أتراني خرجت من كنيسة؟ أقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم وتقول لي: أتقول بهذا؟ ويحك أي أرض تقلني؟ وأي سماء تظلني إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فلم أقل به نعم، على الأس والعين.
إن تعظيمَ الربَّ – تعالى – وتمجيدهِ مُستلزمٌ لتعظيمِ أَحكامِهِ ونصُوصِ شرعِهِ من القرآنِ والسُنِة؛ قال الإمامُ ابن القيم رَحِمهٌ اللهُ: ألُ مراتبِ تَعظيمِ الحق عَزَ وَجَلَّ تعظيمُ أَمرهِ ونهيهِ، فيكونُ تعظيمُ المؤمنِ لأمرِ اللهِ ونهيهِ دَالاً على تعظيمهِ لصاحبِ الأمرِ والنهي.
المقال الحادي عشر: من مظاهر تعظيم الله في رمضان (11) | تعظيم ليلة القدر