أقسم الله بمخلوق عظيم؛ دال على عظمة خالقه؛ فقال: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُور} [الطور:6]، قال مجاهد- رحمه الله- المسجور: الموقد ([1]).
فالبحر لا يزال منذ ملايين السنين يشتعل قاعه بنار تصل حرارتها لآلاف الدرجات المئوية، وعلى الرغم من ذلك لا يتبخر الماء، ولا تنطفئ النيران! .
بل جعل الله البحر وأحياءه نعمة تلبي ضرورات الإنسان وأشواقه: فمنه اللحم الطري من السمك وغيره للطعام، وإلى جواره الحلية من اللؤلؤ والمرجان، وغيرهما من الأصداف والقواقع التي يتحلى بها أقوام ما يزالون حتى الآن. وحركة الفلك فيها تلبية لحاسة الجمال لا بمجرد الركوب والانتقال، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} [النحل:14]، وحث سبحانه عباده على الثناء عليه وتعظيمه؛ حيث أعطاهم من مصالحهم ومنافعهم فوق ما يطلبون، وأعلى ما يتمنون.
و تأمل ما قال العلماء في قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّور}[النور:40].
لقد اكتشف العلم التجريبي وجود ظلمات في البحار العميقة، ووجود أمواج داخلية فيها مخالفة للأمواج السطحية، وأن هذه الظلمات متراكبة بعضها فوق بعض؛ حيث تزداد بالتدريج مع زيادة العمق حتى تنعدم الرؤية تماماً.
وتأمل قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّور}[النور:40].
في هذه الآية إشارة لطيفة إلى أسماك الأعماق السحيقة، حيث زوَّد الله هذه المخلوقات بالنور، فلكل جعل الله له شمساً خاصة به؛ حيث كشف العلم أن البحار والمحيطات العميقة تعج بالكائنات المضيئة التي زودَّها الله بالنور.
والإنسان بعلمه المحدود لم يتخيل أن يكون هناك حياة بأي معنى، ولكن قدرة الله وعظمة تدبيره تفوق الوصف؛ فسبحانه لا تحده الكلمات، ولا يصفه الواصفون ولا يعرفه العارفون.
والسؤال: كيف تُوَلِّد الأسماكُ الضوءَ؟
هذه الأسماك زوَّدها الخالق العظيم عز وجل بمقدرتها على توليد الضوء بطريقة لا يملك الإنسان إلا أن يسجد أمام عظمة الخالق، ويسمى هذا الضوء علميًّا بالضوء البارد؛ أي الضوء الذي لا يصاحبه توليد أي حرارة، وذلك بواسطة أعضاء خاصة تدعى «حاملات الضوء»، وهذه الأعضاء عبارة عن مصابيح صغيرة على درجة عالية من الكفاءة، حيث تتركب من قرنية شفافة تتلوها عدسة، ثم عاكس مقعر عبارة عن نسيج خاص يقابل شبكية العين هو المسئول عن توليد الضوء، كما تقوم القرنية والعدسة بتجميع هذا الضوء قبل أن ينبثق خارج جسم السمكة.
وتختلف أعضاء الإضاءة في هذه الأسماك من حيث العدد والتوزيع والتعقيد، وغالبًا ما توجد على جانبي الحيوان، أو على بطنه، أو رأسه، ونادراً على سطحه العلوي. وتعتبر قدرة هذه الأسماك على توليد الضوء إحدى عجائب خلق الله وعظمته في الطبيعة. وقد يكون هذا الضوء باهتا يصدر بشكل متقطع من وقت لآخر، أو قد يكون مبهراً مستمراً.
وهناك أنواع أخرى من الأسماك لا تستطيع توليد الضوء البارد بنفسها؛ فينعم الله عليها بأن يجعل نوعًا من البكتيريا المضيئة بذات الطريقة تتعايش معها على سطحها أو بين ثنايا الجلد؛ فينبعث منها الضوء؛ فترى السمكة نتيجة الضوء المنبعث من البكتريا والفطريات؛ فسبحانك ربي ما أعظمك.
وهناك بعض الأسماك تستخدم الضوء كشفرات بين الذكور والإناث أثناء موسم التزاوج؛ فنجد بعض أنواع إناث الأسماك ينبعث منها أضواء ملونة من أماكن مختلفة على أجسامها؛ فتصبح مثل الطاووس في روعتها وجمالها؛ فتجذب الذكور إليها أثناء موسم التزاوج، والغريب أن هذه الأضواء المبهرة لا يراها إلا الذكور التابعة لنفس نوع الإناث.
سبحانك ربي ما أعظمك، وما أعظم تدبيرك لشؤون مخلوقاتك.
وتأمل قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 53].
ما عرف الإنسان أن البحار الملحة بحار مختلفة إلا مؤخراً، بعد أن أقام الدارسون آلاف المحطات البحرية؛ لتحليل عينات من مياه البحار، وقاسوا في كل منها الفروق في درجات الحرارة، ونسبة الملوحة، ومقدار الكثافة، ومقدار ذوبان الأوكسجين في مياه البحار في كل المحطات؛ فأدركوا بعدئذٍ أن البحار الملحة متنوعة.
وما عرف الإنسان البرزخ الذي يفصل بين البحار الملحة، إلا بعد أن أقام محطات الدراسة البحرية، وبعد أن قضى وقتاً طويلاً في تتبع وجود هذه البرازخ المتعرجة المتحركة، والتي تتغير في موقعها الجغرافي بتغير فصول العام ([2]).
وصدق الله العظيم إذ يقول: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم}[الأنعام:101].
[1] التبيان في أقسام القرآن، ابن القيم: 268.
[2]الإعجاز العلمي في القرآن والسنة: عبد الله بن عبد العزيز المصلح: ص 244- 245.