الله: الرب القادر
ليتأمل اللبيب قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون}[الأنعام:65]
والمعنى: إن الذي ينجيكم من ظلمات البرّ والبحر ومن كل كرب، ثم تعودون للإشراك به، هو القادر على أن يرسل عليكم عذابًا من فوقكم، أو من تحت أرجلكم؛ لشرككم به، وادّعائكم معه إلهًا آخر غيره، وكفرانكم نعمه، مع إسباغه عليكم آلاءه ومِنَنه.
فمن رحمته أن رفع عن هذه الأمة العذاب من فوقهم بالرجم والحصب، ونحوه، ومن تحت أرجلهم بالخسف، على الرغم من إخبار عباده أنه قادر على ذلك.
ولكنه سبحانه قد عاقب من عاقب منهم، بأن أذاق بعضهم بأس بعض، وسلط بعضهم على بعض، عقوبة عاجلة، يراها المعتبرون المعظمون له كفارة للمؤمنين، ويشعر بها العالمون الموقرون لجلاله.
فالقادر: هو «كامل القدرة، بقدرته أوجد الموجودات، وبقدرته دبرها، وبقدرته سواها وأحكمها، وبقدرته يحيي ويميت، ويبعث العباد للجزاء، ويجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، الذي إذا أراد شيئًا قال له: كن فيكون، وبقدرته يقلب القلوب ويصرفها على ما يشاء ويريد».
وأخبر ربنا عن عظيم قدرته سبحانه وتعالى إذ خلق من الماء الضعيف إنساناً شديد القوة عقلاً وجسماً، قال تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِين. فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِين. إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُوم. فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُون}[المرسلات:23]. ثم مدح سبحانه عظيم قدرته بِنُون العظمة (فَقَدَرْنَا)؛ لما أتت بما هو مقتضى الحكمة.
وأخبرنا سبحانه بقدرته العظيمة على إعطاء الملك والسلطان، وَبسط القدرة لمن يشاء، ويذلّ من يشاء؛ بسلب الملك منه، وتسليط عدوه عليه، قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}[آل عمران:26].
وأخبرنا أن من أكبر الأدلة على قدرته وعظمته وحكمته ورحمته أنه يدخل الليل على النهار، والنهار على الليل؛ فينشأ عن ذلك من الفصول والضياء والنور والشمس والظل والسكون والانتشار، ما يكون سبباً في تحقيق مصالح ومنافع عباده: قال تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب}[آل عمران:27].
وأخبرنا ﷻ أن له ملك السموات والأرض وما فيهن، وهو العظيم القادرٌ على إفنائهن وعلى إهلاكهن، وإهلاك من في الأرض جميعًا كما ابتدأ خلقهم؛ لأن قدرته القدرةُ التي لا تشبهها قدرة، وسلطانه السلطان الذي لا يشبهه سلطان، قال تعالى: {لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}[المائدة:120].
ومن أدلة عظمته وتوحيده أنه تعالى المنفرد بكشف الضراء، وجلب الخير والسراء لعباده، قال تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُير}[الأنعام:17]؛ فهو القادر على النفع والضر، وهو على كل شيء يريده قادر، لا يعجزه شيء يريده، ولا يمتنع منه شيء طلبه.
وتأمل لما ذكر عمل الخير والعفو عن المسيء؛ ذكر أنه يعامل من فعل ذلك بعفوه التام الصادر عن قدرته، قال تعالى: {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}[النساء:149].
وحذَّر المسلمين من سوء الظن به ﷻ، عندما أصابتهم الهزيمة في أُحُد بسب حين تنازعهم وعصيانهم؛ لأنه العظيم القادر على نصرهم، ولكن له الحكمة التامة في ابتلائهم ومصيبتهم، قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}[آل عمران:165]
فهو العظيم القدير على نصركم وعلى خذلانكم، فلما عصيتم وجررتم لأنفسكم الغضب؛ قدر الله لكم الخذلان.
فعلى المؤمن بعظمة الله وقدرته – ﷻ – ألا يغتر بقدرته وقوته، وأن يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى فيما ينوبه، وأن يتبرأ من الحول والقوة إلا بالله تعالى، وقد أرشدنا الرسول ﷺ إلى أن نكثر من قول: «لا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّهِ».
وعلمنا ﷺ الاستخارة في الأمور كلها، وعلمنا طْلُب القُدرةَ من الله العظيم القدير ، أن يعيننا على القدرة على الأمر المستخار فيه؛ فيقول العبد: «اللَّهُمَّ إنِّي أسْتَخِيرُكَ بعِلْمِكَ، وأَسْتَقْدِرُكَ بقُدْرَتِكَ، وأَسْأَلُكَ مِن فَضْلِكَ العَظِيمِ؛ فإنَّكَ تَقْدِرُ ولَا أقْدِرُ، وتَعْلَمُ ولَا أعْلَمُ، وأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ».