التفكر في مخلوقات الله سبيل تعظيمه
كَانَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي- رحمه الله – يَقُولُ: اخْرُجُوا بِنَا حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ؟
أَيْ: كَيْفَ رَفَعَهَا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَنِ الْأَرْضِ هَذَا الرَّفْعَ الْعَظِيمَ ([1]).
إنَّ التفكُّرَ في مخلوقات الله عزَّ وجلَّ؛ يكشفُ عن عظمة الخالق، ويجعل المرءَ يتواضع لعظمته؛ فيزداد إيمانًا وصفاءً، ويُورث الحكمة، ويُحيي القلوب، ويُورث فيها الخوف والخشية من الله عز وجل، ولو تفكَّر الناس في عظمة الله عز وجل؛ ما عصوه.
وقد أرشد الله عباده بالنظر للتفكر والاعتبار؛ فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب}[آل عمران:190].
حث اللهُ العباد على التفكر في خلق السماوات والأرض، والتبصر بآياتها، وتدبر خلقها؛ لأن فيها من الآيات العجيبة ما يبهر الناظرين، ويقنع المتفكرين، ويجذب أفئدة الصادقين، وينبه العقول النيرة على جميع المطالب الإلهية، فما فيها من العظمة والسعة، وانتظام السير والحركة؛ يدل على عظمة خالقها، وعظمة سلطانه وشمول قدرته، وما فيها من الإحكام والإتقان، وبديع الصنع، ولطائف الفعل؛ يدل على حكمة الله ووضعه الأشياء مواضعها، وسعة علمه. وما فيها من المنافع للخلق، يدل على سعة رحمة الله، وعموم فضله، وشمول بره، ووجوب شكره.
وثمرة هذا التفكر: تعظيم القلب لخالقها ومبدعها والتعلق به، وبذل الجهد في مرضاته.
وخص الله بالآيات أولي الألباب، وهم أهل العقول؛ لأنهم هم المنتفعون بها، الناظرون إليها بعقولهم لا بأبصارهم.
وتأمل حثه لعباده في التفكر في مخلوقاته الدالة على توحيده؛ قال تعالى:{أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَت. وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَت. وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَت. وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَت} [الغاشية:20].
ألا ينظرون إلى خلق الإبل البديع، وكيف سخرها الله للعباد، وذللها لمنافعهم الكثيرة التي يضطرون إليها.
وخصَّ الإبل بالنظر في دقيق خلقها؛ لأن الإبل أموالهم ورواحلهم، ومنها عيشهم ولباسهم ونسج بيوتهم وهي حمالة أثقالهم، وقد خلقها الله خلقا عجيبا بقوة قوائمها ويسر بروكها لتيسير حمل الأمتعة عليها، وجعل أعناقها طويلة قوية ليمكنها النهوض بما عليها من الأثقال بعد تحميلها أو بعد استراحتها في المنازل والمبارك، وجعل في بطونها أمعاء تختزن الطعام والماء بحيث تصبر على العطش إلى عشرة أيام في السير في المفاوز مما يهلك فيما دونه غيرها من الحيوان.
ثم نقل بهم إلى التفكر في عظيم خلق السماء؛ إذ هم ينظرونها نهارهم وليلهم في إقامتهم وظعنهم، يرقبون أنواء المطر ويشيمون لمع البروق.
ثم أتبع ذكر السماء بذكر الجبال بهيئتها الباهرة، والتي حصل بها استقرار الأرض وثباتها عن الاضطراب، وأودع فيها من المنافع الجليلة ما أودع، وكانت الجبال منازل لكثير منهم، وينزلون سفوحها؛ ليكونوا أقرب إلى الاعتصام بها عند الخوف، ويتخذون فيها مراقب للحراسة،
ثم نزل بأنظارهم إلى الأرض وهي تحت أقدامهم وهي مرعاهم ومفترشهم، وكيف مدت مدًا واسعًا، وسهلت غاية التسهيل، ليستقر الخلائق على ظهرها، ويتمكنوا من حرثها وغراسها، والبنيان فيها، وسلوك الطرق الموصلة إلى أنواع المقاصد فيها.
وإن هذه المشاهد معروضة لنظر الإنسان حيثما كان، السماء والأرض والجبال والحيوان، وأيا كان حظ الإنسان من العلم والحضارة؛ فهذه المشاهد داخلة في عالمه وإدراكه. موحية له بما وراءها حين يوجه نظره وقلبه إلى دلالتها من عظمة خالقها ومبدعها، والمعجزة كامنة في كل منها.
وتأمل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَاب}[الرعد:41].
فقوة الله وقدرته وعظمته تأتي على الأمم القوية الغنية – حين تبطر وتكفر وتفسد -؛ فتنقص من قوتها، وتنقص من ثرائها، وتنقص من قدرها، وتحصرها في رقعة من الأرض ضيقة بعد أن كانت ذات سلطان وذات امتداد، وإذا حكم اللّه عليها بالانحسار؛ فلا معقب لحكمه، ولا بد له من النفاذ؛ فليسوا هم بأشد مكراً ولا تدبيرا ولا كيدًا ممن كان قبلهم. فأخذهم اللّه وهو أحكم تدبيراً وأعظم كيداً.
وتأمل قوله تعالى: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون}[الرعد:4].
وإنما وصفت بمتجاورات؛ لأن اختلاف الألوان، والمنابت، مع التجاور أشد دلالة على القدرة العظيمة.
فهذه أرض طيبة؛ تنبت الكلأ والعشب الكثير والأشجار والزروع، وهذه أرض تلاصقها لا تنبت كلأ ولا تمسك ماء، وهذه تمسك الماء ولا تنبت الكلأ وهذه تنبت الزرع والأشجار ولا تنبت الكلأ وهذه الثمرة حلوة وهذه مرة وهذه بين ذلك.
فهل هذا التنوع في ذاتها وطبيعتها؟ أم ذلك تقدير العظيم الجليل الرحيم؟
وما من موضع ذكر الله فيه التفكر إلا في معرض المدح؛ فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَاب}[الزمر:21]، وقال تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَار}[آل عمران:13]، وقال: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى}[طه:54].
وذم المعرضين عن التفكر؛ فقال: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُون} [يوسف:105].
فما أعظم التفكر في بديع خلق الله تعالى، وما أعظم ثماره!
——————————————
[1] تفسير ابن كثير: 8/ 387.