قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُون} [يوسف:106]، عن عكرمة- رضي الله عنه-قال: تسألهم: مَن خلقهم؟ ومن خلق السماوات والأرض؛ فيقولون: الله. فذلك إيمانهم بالله، وهم يعبدون غيره ([1]).
فهؤلاء يؤمنون بربوبية الله، ولا يقرون له بالألوهية.
فما توحيد الربوبية، وما توحيد الألوهية؟
توحيد الربوبية: هو توحيد الرب بأسمائه، وصفاته، وأفعاله.
وتوحيد الألوهية: هو توحيد الله بأفعال العباد (العبادات): كالصلاة، والدعاء.
والربوبية والألوهية لهما إطلاقان:
تارة يذكر أحدهما مفرداً عن الآخر، فيكون معناهما واحداً، كما قال سبحانه: {قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:164].
وتارة يذكران معاً، فيفترقان في المعنى.
فيكون معنى الرب: الخالق المالك، الذي بيده الخلق والأمر كله.
ويكون معنى الإله: المعبود المستحق للعبادة وحده دون سواه، كما قال سبحانه:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [1] مَلِكِ النَّاسِ [2] إِلَهِ النَّاسِ [3] مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ [4] الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [5] مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [6]} [الناس:1- 6].
. تلازم توحيد الربوبية والألوهية:
توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية.
فمن أقر بأن الله وحده هو الرب الخالق المالك الرازق؛ لزمه أن يقر بأنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده لا شريك له؛ فلا يدعو إلا الله وحده، ولا يستغيث إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يصرف شيئاً من أنواع العبادة إلا لله وحده دون سواه.
وتوحيد الألوهية مستلزم لتوحيد الربوبية: فكل من عبد الله وحده، ولم يشرك به شيئاً، لابد أن يكون قد اعتقد وعرف أن الله ربه وخالقه ومالكه ورازقه؛ فهذا مبني على هذا، ولا يقبل هذا إلا بهذا، ولا يصح عمل إلا بهذا وهذا.
وتوحيد الربوبية يقرُّ به الإنسان بموجب فطرته، ونظره في الكون، والإقرار به وحده لا يكفي للإيمان بالله، والنجاة من النار؛ فقد أقرّ به إبليس والمشركون فلم ينفعهم؛ لأنهم تركوا القيام بثمرته وهو توحيد العبادة لله وحد، والتوجه إليه تعظيماً وإجلالاً.
تأمل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21- 22].
استدل ربنا تعالى وتعاظم شأنه على وجوب عبادته وحده (توحيد الألوهية)، بأنه ربكم (توحيد الربوبية) الذي رباكم بأصناف النعم؛ فخلقكم بعد العدم، وخلق الذين من قبلكم، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة؛ فجعل لكم الأرض فراشًا تستقرون عليها، وتنتفعون بالأبنية، والزراعة، والحراثة، والسلوك من محل إلى محل، وغير ذلك من أنواع الانتفاع بها، وجعل السماء بناء لمسكنكم، وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم، كالشمس، والقمر، والنجوم.
فهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة ما سواه، وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته، وبطلان عبادة من سواه، وهو ذكر توحيد الربوبية، المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير، فإذا كان كل أحد مقرًا بأنه ليس له شريك في ذلك؛ فكذلك فليكن إقراره بأن الله لا شريك له في العبادة، وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري، وبطلان الشرك.
وتأمل قوله تعالى : {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُون}[الزمر:38].
قل لهم بعد ما تبين الدليل القاطع على أنه وحده المعبود، وأنه الخالق للمخلوقات، النافع الضار وحده، وأن غيره عاجز من كل وجه. عن الخلق والنفع والضر، مستجلبًا كفايته، مستدفعًا مكرهم وكيدهم، قُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ، عليه يعتمد المعتمدون في جلب مصالحهم ودفع مضارهم، فالذي بيده – وحده – الكفاية هو حسبي، سيكفيني كل ما أهمني وما لا أهتم به.
لقد كانوا يقررون – حين يُسألون – أن اللّه هو خالق السماوات والأرض. وما تملك فطرةٌ أن تقول غير هذا، وما يستطيع عقل أن يعلل نشأة السماوات والأرض إلا بوجود إرادة عظمى. فهو يأخذهم ويأخذ العقلاء جميعًا بهذه الحقيقة الفطرية الواضحة، إذا كان اللّه هو خالق السماوات والأرض. فهل يملك أحد أو شيء في هذه السماوات والأرض أن يكشف ضراً أراد اللّه أن يصيب به عبدًا من عباده؟ أم يملك أحد أو شيء في هذه السماوات والأرض أن يحبس رحمة أراد اللّه أن تنال عبدًا من عباده؟
والجواب القاطع: أن لا.
إن هؤلاء لم يقدروا لله عظمة؛ لذلك ضلوا ضلالاً بعيداً.
أما الموفقون فقد عظَّموه رباً، وعظَّموه إلهًا معبوداً حقًّا؛ فسعدوا في الدنيا، وتنتظرهم السعادة في الآخرة.
[1] تفسير الطبري:16/ 286.