حياة القلوب في تعظيم الحي الذي لا يموت
قال أبو الحسين الوراق- رحمه الله-: «حياة القلب في ذكر الحي الذي لا يموت» ([1]).
فأصل كل خير للعبد: كمال حياة قلبه ونوره بتعظيمه وإجلاله لربه، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِى بِهِ فى النّاسِ كَمن مَثَلُهُ فِى الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122].
فجمع سبحانه بين الأصلين: الحياة، والنور، وسببهما تعظيم الله في القلوب؛ فبالحياة تكون قوة العبد، وسمعه وبصره، وحياؤه وعفته، وشجاعته وصبره، وسائر أخلاقه الفاضلة، ومحبته للحسن، وبغضه للقبيح. فكلما قويت حياته؛ قويت فيه هذه الصفات، وإذا ضعفت حياته ضعفت فيه هذه الصفات، وحياؤه من القبائح هو بحسب حياته فى نفسه، فالقلب الحي المُعَظِّم لله إذا عرضت عليه القبائح؛ نفر منها بطبعه، وأبغضها ولم يلتفت إليها؛ لأن في القلب ما يشغله من عظمة مولاه.
وإذا قوى نور القلب الحي وإشراقه بتعظيم الله وإجلاله؛ انكشفت له صور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه، فاستبان حُسْنَ الحسن بنوره، وآثره بحياته، وقد ذكر سبحانه وتعالى هذين الأصلين فى كتابه. فقال تعالى: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِى به مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنّكَ لَتَهْدِى إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقيمٍ} [الشورى: 52] .
فأخبر العظيم الجليل أن كتابه الذى أنزله على رسوله ﷺمتضمن لأمرين، فهو روح تحيا به القلوب، ونور تستضئ وتشرق به.
والمقصود: أن صلاح القلب وسعادته وفلاحه موقوف على هذين الأصلين. قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرٌآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيا} [يس: 69-70]؛ فأخبر أن الانتفاع بالقرآن والإنذار به؛ إنما يحصل لمن هو حي القلب، المُعَظِّم للرب.
وحياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركاً للحق مريداً له، مؤثرا له على غيره، ولما كان فى القلب قوتان: قوة العلم والتمييز، وقوة الإرادة والحب؛ كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه، ويعود عليه بصلاحه وسعادته. فكماله باستعمال قوة العلم فى إدراك الحق، ومعرفته، وتوقير الله وتعظيمه، والتمييز بين الحق والباطل، وباستعمال قوة الإرادة والمحبة فى طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل.
وجعل الله العظيم وحيه الذي يلقيه إلى الأنبياء روحا؛ لأن حياة الأرواح والقلوب به كما قال تعالى:{وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]، وهذه هي الحياة الطيبة التي خص بها سبحانه من قَبِلَ وحيه، وعمل به فقال:{مَنْ عَمِلَ صَالحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
وأخبر العظيم سبحانه في آية حياة القلوب بنور العلم والحكمة {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [النحل:65]
وأخبر العظيم سبحانه وتعالى: أن الْإِيمَان هُوَ حَيَاة الْقُلُوبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الْأَنْعَامِ: 122]
ومحبة الله العظيم هي حياة القلوب، وغذاء الأرواح، وليس للقلب لذة، ولا نعيم، ولا فلاح، ولا حياة إلا بها، وإذا فقدها القلب كان ألمه أعظم من ألم العين إذا فقدت نورها، والأذن إذا فقدت سمعها، والأنف إذا فقد شمه، واللسان إذا فقد نطقه.
ومن أسباب حياة القلوب: الإقبال على الله العظيم، وتلاوة كتابه وتدبره والاشتغال بذكره وتعظيمه قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] .
فإن في القلوب فاقة وحاجة لا يسدها إلا الإقبال على الله العظيم، والإنابة إليه، وتوقيره وإجلاله، ولا يلم شعثها إلا بحفظ الجوارح، واجتناب المحرمات، واتقاء الشبهات.
ومن أسباب حياة القلوب النظر والتفكر في مخلوقات الله العظيمة وما فيها من حكم العظيم، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} [آل عمران: 190].
ومن أسباب حياة القلوب النظر في عواقب الظلمة والمفسدين وما أحل الله العظيم بهم من العقوبات قال تعالى: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
فالقلب الحي المعظِّم لربه: هو الذي همه كله فى الله، وحبه كله له، وقصده له، وبدنه له، وأعماله له، ونومه له، ويقظته له، وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث، وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابه، والخلوة به آثر عنده من الخلطة إلا حيث تكون الخلطة أحب إليه وأرضى له، قرة عينه به، وطمأنينته وسكونه إليه.
فسبحان الرب العظيم الذي جعل حياة القلوب في محبته، وأُنْس النفوس في معرفة عظمته، وراحة الأبدان في طاعته، ولذة الأرواح في خدمته وتوقيره، وكمال الألسن بالثناء عليه وذكره وتعظيمه، وعزها بالتعبد له وشكره وإجلاله.
[1] إغاثة اللهفان، لابن القيم: 1/ 72.