آيات الله الكونية وآثارها الوجدانية الدالة على تعظيم الله
ما العلاقة الوجدانية، بين إدراك ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من حق، وبين هذه الارتعاشة المنطلقة بالدعاء الخائف الواجف من النار على ألسنة أولى الألباب في قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار. رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار} [آل عمران:190-191]؟.
إن إدراك الحق الذي قام عليه هذا الكون، معناه – عند أولي الألباب – أن هناك تقديراً وتدبيراً، وأن هناك حكمة وغاية، وأن هناك حقًا وعدلاً وراء حياة الناس في هذا الكوكب. ولا بد إذن من حساب ومن جزاء على ما يقدِّم الناس من أعمال. ولا بد إذن من دار غير هذه الدار يتحقق فيها الحق والعدل في الجزاء، ولابد مصير إلى جنة أو إلى نار؛ فيكون الدعاء إلى اللّه أن يقيهم منها.
ويبدو أن خوفهم من النار، إنما هو خوف من الخزي الذي يصيب أهل النار، وهذه الرجفة التي تصيبهم هي أولاً رجفة الحياء من الخزي الذي ينال أهل النار؛ فهي ارتجافة باعثها الأكبر الحياء من اللّه؛ تعظيمًا لجنابه، وإجلالاً لملكه وسلطانه.
وتأمل في نعمة الماء وما ينشئه من حياة على وجه الأرض، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُون. يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} [النحل:10-11].
حيث أنزل ماءً غزيراً منه يشربون، وتشرب مواشيهم، ويسقون منه حروثهم؛ فتخرج لهم الثمرات الكثيرة والنعم الغزيرة، وهذا الإخراج للثمرات المختلفة الأصناف من ماء واحد، من دلائل عظيم القدرة الربانية.
وخصَّ سبحانه وتعالى الذين يتفكرون؛ لأنهم هم الذين يدركون حكمة التدبير، وهم الذين يربطون بين نزول الماء من السماء وما ينشئه على الأرض من حياة وشجر وزروع وثمار، ودلالتها على الخالق العظيم المبدع، وعلى وحدانية ذاته، ووحدانية إرادته، ووحدانية تدبيره.
أما الغافلون؛ فيمرون على مثل هذه الآية في الصباح والمساء، في الصيف والشتاء؛ فلا توقظهم من غفلتهم، ولا تستجيش وجدانهم وضمائرهم إلى البحث عن صاحب هذا النظام الفريد.
وتأمل في هذه الخصوصية في قوله تعالى: {لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ}؛ أي: جعله لكم عذبًا زلالاً؛ يسوغ لكم شرابه، ولم يجعله مِلحًا أُجاجًا؛ ليستجيش مشاعرهم ووجدانهم؛ ليرغبهم في عبادته وتعظيمه وإجلاله.
وتأمل في قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون. وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُون} [النحل:12-13].
حيث ينبه جلَّ في علاه عباده على آياته العظام، ومننه الجسام، في تسخيره الليل والنهار يتعاقبان، والشمس والقمر يدوران، والنجوم الثوابت والسيَّارات في أرجاء السماوات نورًا وضياءً للمهتدين بها في الظلمات، وكل منها يسير في فلكه الذي جعله الله تعالى فيه، يسير بحركة مقدرة، لا يزيد عليها ولا ينقص منها، والجميع تحت قهره، وسلطانه، وتسخيره، وتقديره، وتسييره؛ ليستثير في نفوس عباده حبه، وتعظيمه، وتوقيره؛ لأنه خصهم بهذه النعم وما فيها من منافع ومصالح لهم في حياتهم.
وتأمل هذه الاستجاشة الوجدانية، وكيف يأخذ بقلوبهم إلى أمر مألوف لهم، مكرر في مشاهداتهم؛ ليريهم عظمة اللّه فيه، ويطلعهم على المعجزة التي تقع بين أيديهم، وعلى مرأى من عيونهم، وهم عنها غافلون: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ. أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ. لَوْ نَشَاءُ لَـجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ. إنَّا لَـمُغْرَمُونَ. بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ. أَفَرَأَيْتُمُ الْـمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْـمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْـمُنزِلُونَ. لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ. أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ. أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْـمُنشِئُونَ. نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ . فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 63 – 74].
وبعد عرض هذه الحقائق والأسرار في مخلوقاته العظيمة، الناطقة بدلائل الإيمان. الميسرة للقلوب والأذهان؛ يلتفت إلى الحقيقة التي تنتهي إليها هذه الحقائق، حقيقة وجود اللّه وعظمته وربوبيته، وهي حقيقة تواجه الفطرة مواجهة ذات قوة وسلطان؛ فيهيب بالرسول – صلى اللّه عليه وسلم – ومن بعده ورثته وحملة رسالته أن يحيي هذه الحقيقة ويؤدي حقها ويلمس القلوب بها في حينها : «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ».
أي: إذ علمتم ما أنزلنا من الدلائل، وتذكرتم ما في ذلك من النعم؛ فنزهوا الله كامل الأسماء والصفات، كثير الإحسان والخيرات، الذي بقدرته خلق هذه الأشياء المختلفة المتضادة؛ الماء العذب الزلال البارد، ولو شاء لجعله ملحًا أجاجًا، وخلق النار المحرقة، وجعل ذلك مصلحة للعباد، وجعل هذه منفعةً لهم في معاش دنياهم، وزاجرًا لهم في المعاد.
عظَّموا ربكم بقصارى ما تستطيعون من جهدكم؛ لأنه أهل لذلك، وهو المستحق لأن يشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، ويطاع فلا يعصى.