أثر الذنوب على تعظيم علام الغيوب
قال مجاهد- رحمه الله- في قوله: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ}[الحج:30]
الحرمة: …ما نهى الله عنه من معاصيه كلها([1]).
أي: ومن يجتنب معاصيه ومحارمه، ويكون ارتكابها عظيماً في نفسه؛ فله على ذلك خير كثير وثواب جزيل، فكما على فعل الطاعات ثواب جزيل وأجر كبير، كذلك على ترك المحرمات واجتناب المحظورات([2]).
ومن ارتكب الذنوب، ولم يعظِّم أمر الله ونهيه؛ يعاقبه الله تعالى، ومن أعظم أنواع عقوبات الذنوب: أنها تضعف تعظيم الرب جل جلاله في القلب، وتضعف وقاره في قلب العبد، شاء أم أبى، ولو تمكن وقار الله وعظمته في قلب العبد؛ لما تجرأ على معاصيه.
وربما اغتر المغتر، وقال: إنما يحملني على المعاصي حسن الرجاء، وطمعي في عفوه، لا ضعف عظمته في قلبي، وهذا من مغالطة النفس؛ فإن عظمة الله تعالى وجلاله في قلب العبد تقتضي تعظيم حرماته، وتعظيم حرماته يحول بينه وبين الذنوب، والمتجرئون على معاصيه ما قدروا الله حق قدره، وكيف يقدره حق قدره، أو يعظَّمه ويكبره، ويرجو وقاره ويجله، من يهون عليه أمره ونهيه؟ هذا من أبعد المحال، وأبين الباطل، وكفى بالعاصي عقوبة أن يضمحل من قلبه تعظيم الله جل جلاله، وتعظيم حرماته، ويهون عليه حقه([3]).
وإذا اجترأ العبد على فعل الذنوب ولم يهاب الله ويوقره ؛ رفع الله عز وجل مهابته من قلوب الخلق، ويهون عليهم، ويستخفون به، كما هان عليه أمر ربه واستخف به، والجزاء من جنس العمل.
فعلى قدر محبة العبد لله يحبه الناس، وعلى قدر خوفه من الله يخافه الخلق، وعلى قدر تعظيمه لله وحرماته يعظمه الناس.
وكيف ينتهك عبد حرمات الله، ويطمع أن لا ينتهك الناس حرماته، أم كيف يهون عليه حق الله ولا يهونه الله على الناس؟ أم كيف يستخف بمعاصي الله ولا يستخف به الخلق؟
وقد أشار سبحانه في كتابه أنه أركس أربابها بما كسبوا، تأمل قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ}[النساء:88].
فإن الأعمال تتوالد من جنسها، فالعمل الصالح يأتي بزيادة الصالحات، والعمل السيء يأتي بمنتهى المعاصي([4]).
و أشار سبحانه وتعالى أنه غطى على قلوبهم، وطبع عليها بذنوبهم، وأنه نسيهم كما نسوه، وأهانهم كما أهانوا دينه، وضيعهم كما ضيعوا أمره؛ ولهذا قال تعالى في آية سجود المخلوقات له: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء}[الحج:18]؛ فإنهم لما هان عليهم السجود له، واستخفوا به، ولم يفعلوه؛ أهانهم الله، فلم يكن لهم من مكرم بعد أن أهانهم الله، ومن ذا يكرم من أهانه الله؟ أو يهن من أكرمه الله؟
ومن عقوبة عدم تعظيم حرمات الله والجسارة على الوقوع فيها؛ تسليط الله لخلقه على صاحب الذنب الذي لم يتب منه، قال الفضيل- رحمه الله- إني لأعصي الله؛ فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي ([5]).
وكأن المخلوقات غارت على حرمات الله أن تُنْتَهك، وعلى أوامر أن تُعَطل ولا تنفذ، وعلى نواهي الله أن تُقْتَحم.
ومن عقوبات الجسارة على الذنوب وعدم تعظيم علام الغيوب الحرمان من الخاتمة الحسنة، وعدم التوفيق إلى قول كلمة التوحيد” لا إله إلا الله”، وقد قيل لأحدهم قل ” لا إله إلا الله” فقال: كلما أردت أن أقولها لساني يمسك عنها.
وكأن اللسان الذي لم يتعبد بقولها في الدنيا، ولم يتذوق معناها؛ ولم يعمل بمقتضاها؛ يُحْرَم من التوفيق لقولها عند الانتقال إلى الله من دار الدنيا إلى الدار الآخرة.
وقد قيل:
خَلِّ الذُنُوبَ صَغِيرَها، وَكَبِيرَهَا؛ ذَاكَ التُّقَــــــــــــــــــى!
وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أرْضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى
لَا تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً إِنَّ الْجِبَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالَ مِنَ الْحَصَى!
أخي المبارك:
كن للذنب مجتنباً، ولعلاَّم الغيوب معظماً؛ تنل من الرب العظيم كرماً، ومن الناس تعظيماً.
[1] تفسير القرآن العظيم، لابن كثير:5/ 419.
[2] المرجع السابق:5/ 419.
[3] الداء والدواء، لابن القيم: 69. بتصرف يسير.
[4] التحرير والتنوير: 5/15.
[5] حلية الاولياء، لأبي نعيم: 8 / 109