الله: اللطيف
تأمل في قصة يوسف – عليه السلام- وكيف تنقلت الأحوال، وتطورت به الأطوار: من رؤياه، وحسد إخوته له، وسعيهم في إبعاده جدًا، واختصامهم بأبيهم، ثم محنته بالنسوة، ثم بالسجن، ثم بالخروج منه بسبب رؤيا الملك العظيمة، وانفراده بتعبيرها، وتبوؤه من الأرض حيث يشاء، وحصول ما حصل على أبيه من الابتلاء، والامتحان، ثم حصل بعد ذلك الاجتماع السار، وإزالة الأكدار، وصلاح حالة الجميع، والاجتباء العظيم ليوسف عرف – عليه السلام – أن هذه الأشياء وغيرها من لطف الله به؛ فاعترف بهذه النعمة فقال: { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [يوسف: 100].
فالله: اللطيف: هو الذي أحاط علمه بالسرائر والخفايا، وأدرك الخبايا والبواطن والأمور الدقيقة. اللطيف بعباده المؤمنين، الموصل إليهم مصالحهم بلطفه وإحسانه من طرق لا يشعرون بها.
فَمن لطفه: خلقه الْجَنِين فِي بطن أمه فِي ظلمات ثَلَاث وَحفظه فِيهَا وتغذيته بِوَاسِطَة السُّرَّة إِلَى أَن ينْفَصل فيستقل بالتناول بالفم، ثمَّ إلهامه إِيَّاه عِنْد الِانْفِصَال التقام الثدي وامتصاصه وَلَو فِي ظلام اللَّيْل من غير تَعْلِيم ومشاهدة.
وَمن لطفه: إِخْرَاج اللَّبن الصافي من بَين الفرث وَالدَّم، وَإِخْرَاج الْجَوَاهِر النفيسة من الْأَحْجَار الصلبة، وَإِخْرَاج الْعَسَل من النَّحْل، والحرير من الدُّود، والدر من الصدف.
وأعجب من ذَلِك خلقه من النُّطْفَة إنساناً جعله مستودعاً لمعرفته، وحاملاً لأمانته، ومشاهداً لملكوت سماواته.
وَمن لطفه بعباده: أَنه أَعْطَاهُم فَوق الْكِفَايَة وكلفهم دون الطَّاقَة.
وَمن لطفه: أَنه يسر لَهُم الْوُصُول إِلَى سَعَادَة الْأَبَد بسعي خَفِيف فِي مُدَّة قَصِيرَة وَهِي الْعُمر؛ فَإِنَّهُ لَا نِسْبَة لَهَا بِالْإِضَافَة إِلَى الْأَبَد.
ومن لطفه بعباده المؤمنين أنه يتولاهم؛ فيخرجهم من الظلمات إلى النور من ظلمات الجهل، والكفر، والبدع، والمعاصي إلى نور العلم والإيمان والطاعة، ومن لطفه أنه يرحمهم من طاعة أنفسهم الأمارة بالسوء التي هذا طبعها وديدنها؛ فيوفقهم لنهي النفس عن الهوى ويصرف عنهم السوء والفحشاء فتوجد أسباب الفتنة، وجواذب المعاصي وشهوات الغي فيرسل الله عليها برهان لطفه ونور إيمانهم الذي منَّ به عليهم فيدعونها مطمئنين لذلك منشرحة لتركها صدورهم.
ومن لطفه بعباده أنه يقدر أرزاقهم بحسب علمه بمصلحتهم لا بحسب مراداتهم فقد يريدون شيئاً وغيره أصلح؛ فيقدر لهم الأصلح وإن كرهوه لطفاً بهم، وبراً وإحساناً {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيز}[الشورى:19].
ومن لطف الله بعبده: أن يعطي عبده من الأزواج والأولاد، والأموال، ما به تقر عينه في الدنيا ويحصل له السرور، ثم يبتليه ببعض ذلك ويأخذه، ويعوضه عليه الأجر العظيم؛ إذا صبر واحتسب، فنعمة الله عليه بأخذه على هذا الوجه أعظم من نعمته عليه في وجوده وقضاء مجرد وطره الدنيوي منه، وهذا أيضًا خير وأجر خارج عن أحوال العبد بنفسه، بل هو لطف من الله له أن قيض له أسبابًا أعاضه عليها الثواب الجزيل، والأجر الجميل.
ومن لطفه بعبده ووليه الذي يريد أن يتم عليه إحسانه، ويشمله بكرمه ويرقيه إلى المنازل العالية فييسره لليسرى، ويجنبه العسرى، ويجري عليه من أصناف المحن التي يكرهها وتشق عليه وهي عين صلاحه، والطريق إلى سعادته، كما أمتحن الأنبياء بأذى قومهم وبالجهاد في سبيله، كما ذكر الله عن يوسف عليه السلام وكيف ترقت به الأحوال، ولطف الله به وله بما قدره عليه من المحن التي حصلت له في عاقبتها حسن العقبى في الدنيا بالتمكين، وفي الآخرة بالنعيم المقيم في جنان رب العالمين.
فكم لله من لطف وكرم؛ لا تدركة الأفهام ولا تتصوره الأوهام.
وإذا استقرت هذه المعاني من اللطف في قلب العبد المؤمن وتخَلَّق بها؛ أثمرت له الرِّفْق بعباد الله عز وَجل، والتلطف بهم فِي الدعْوَة إِلَى الله تَعَالَى، وَالْهِدَايَة إِلَى سَعَادَة الْآخِرَة من غير إزراء وعنف، وَمن غير تعصب وخصام، مبتدئًا في ذلك بالوالدين والأولاد والأقارب وعموم المسلمين، ممتثلاً قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ» ([1]).
وَأحسن وُجُوه اللطف في المؤمن الجذب إِلَى قبُول الْحق بالقدوة الحسنة، والسيرة المرضية، والأعمال الصَّالِحَة؛ فَإِنَّهَا أوقع وألطف من الْأَلْفَاظ المزينة.
«اللهم الطف بنا في قضائك، وبارك لنا في قدرتك؛ حتى لا نحب تعجيل ما أخرت، ولا تأخير ما عجلت».
[1] صحيح البخاري: باب إذا عرَّض الذمي وغيره بسب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصرح، نحو قوله: السام عليك،(6927).