قال أبو بكر بن عياش -رحمه الله -: «ما سبقهم أبو بكر – رضي الله عنه – بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه» ([1]).
والشيء الذي وقر في قلبه إيمان بالله تعالى؛ زيَّنه بتعظيم وإجلال مولاه؛ لذلك حاز أبو بكرٍ تلك المرتبة التالية لمرتبة النبوة، ألا وهي مرتبة الصديقية بالإيمان الذي وقر في القلب وصدَّقه بالأعمال الصالحة.
أعمال القلوب هي: تلك الأعمالُ التي يكونُ محلُّها القلبَ، وأعظمُها الإيمان بالله عزَّ وجلَّ، الذي يكون في القلبِ منه التصديقُ الانقياديُّ والإقرارُ، هذا بالإضافة إلى المحبَّةِ التي تقع في قلب العبد لربِّه ومعبودِه، والخوفِ والرَّجاء والإنابة والتوكُّل، وما إلى ذلك.
وتأمل وصية أبي بكر لعمر- رضي الله عنهما-؛ تعظيماً لأمر الله، «اتَّق الله يا عمر، واعلم أن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وعملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وأنه لا يقبل نافلة حتى تُؤدى الفريضة» ([3]).
ولقد أدرك الموفقون: أن عمل القلب؛ كالمحبَّة له والتوكُّل عليه، والإنابةِ إليه والخوفِ منه، والرَّجاءِ له وإخلاص الدِّين له، والصَّبرِ على أوامره وعن نواهيه وعلى أقداره، والرِّضى به وعنه، والموالاة فيه والمعاداة فيه، والذلِّ له والخضوع، والإخباتِ إليه والطمأنينة به، وغير ذلك من أعمال القلوب التي فرْضها أفرْضُ من أعمال الجوارح، ومستَحَبُّها أحبُّ إلى الله من مستحَبِّها، وعمَل الجوارح بدونها إمَّا عديم المنفعة أو قليل المنفعة”([4]).
ولقد أدرك هؤلاء الموفقون: أنَّ لله على العبد عبوديتَين؛ عبوديةً باطِنة وعبوديَّة ظاهرة، فله على قلبه عبوديَّة، وعلى لسانه وجوارحِه عبودية؛ فقيامُه بصورة العبوديَّة الظَّاهرة مع تعرِّيه عن حقيقة العبوديَّة الباطِنة ممَّا لا يقرِّبه إلى ربِّه ولا يوجِب له الثَّواب وقبول عمله؛ فإنَّ المقصود امتِحانُ القلوب وابتلاء السَّرائر، فعمل القلب هو رُوح العبوديَّة ولبُّها، فإذا خَلا عمَل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا رُوح”([5]).
وحقيقة العبودية: أن القلوبَ تُشاهد ذاتَه وصِفاته ببصيرتها؛ فتعاملُه بما يَليق بجلاله وجمالِه، ثمَّ تأمر الأعضاءَ والجوارِحَ بأن تُعامله بما يليق بعظَمَته وكمالِه.
لأن القلب للأعضاء كالملك المتصرف في الجنود، الذي تَصدُر كلُّها عن أمره، ويستعملها فيما شاء، فكلها تحت عبوديته وقهره، وتتَّبعه فيما يعقده من العزم أو يحُلّه، وتكتسب منه التعظيم والإجلال، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “ألا وإن في الجسد مُضْغَة؛ إذا صَلَحَتْ صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله”([6]).
فما أعظم عبودية الملكِ وجنودِه!!
وتأمل فَهْم كثير من الناس؛ فتراه يتحرج من ترك فرض، أو من ترك واجب من واجبات البدن، وقد ترك ما هو أهم من واجبات القلوب وأفرضها وهي المحبة الدالة على تعظيمه وتوقيره، ويتحرج من فعل أدنى المحرمات، وقد ارتكب من محرمات القلوب ما هو أشد تحريماً وأعظم إثماً([7]).
وهذا الفهم يكتسبه الناس عندما يضعف في قلوبهم تعظيم خالقهم ومولاهم ومدبر شؤونهم.
لأنه إذا استقرت عظمة اللـه تعالى وجلاله في قلب العبد؛ اقتضى ذلك تعظيم حرماته، وتعظيم حرماته يحول بينه وبين الذنوب، والمتجرئون على معاصيه ما قدروه حق قدره.
ومن أعظم الظلم والجهل أن تطلب التعظيم والتوقير من الناس، وقلبك خال من تعظيم اللـه وتوقيره فإنك توقر المخلوق وتجله أن يراك، في حال لا توقر اللـه أن يراك عليها.
ومن مظاهر تعظيم الله في أعمال القلوب:
أن لا تعدل به شيئا من خلقه لا في اللفظ بحيث تقول واللـه وحياتك، مالي إلا اللـه وأنت، وما شاء اللـه وشئت، ولا في الحب والتعظيم والإجلال، ولا في الطاعة؛ فتطيع المخلوق في أمره ونهيه كما تطيع اللـه بل أعظم كما عليه أكثر الظلمة والفجرة، ولا في الخوف والرجاء وتجعله أهون الناظرين إليك، ولا تستهين بحقه، وتقول هو مبني على المسامحة، ولا تجعله على الفضلة، وتقدم حق المخلوق عليه، ولا يكون اللـه ورسوله في حد وناحية، والناس في ناحية وحد؛ فتكون في الحد والشق الذي فيه الناس دون الحد والشق الذي فيه اللـه ورسوله، ولا تعطي المخلوق في مخاطبته قلبك ولبك، وتعطي اللـه في خدمته بدنك ولسانك دون قلبك وروحك، ولا تجعل مراد نفسك مقدما على مراد ربك، ومن تعظيم اللـه أن تستحي من اطلاعه على سرك وضميرك؛ فيرى فيه ما يكره، ومن تعظيمه أن تستحي منه في الخلوة أعظم مما تستحي من أكابر الناس.
مرِّن نفسك على عظمة ربك في سويداء قلبك؛ يُحبُك ربُك، ويجعل خلْقَه يحبوك
[1] فضائل الصحابة، للإمام أحمد: (1/173).
[2] نخب الأفكار، للعيني: 2/ 146.
[3] حياة الصحابة: 2/ 358.
[4] مدارج السالكين:1/ 114.
[5] بدائع الفوائد: 3/ 192.
[6] أخرجه البخاري (52)، ومسلم، (1599).
[7] انظر: إغاثة اللهفان، لابن القيم: 2/ 180.