وما بكم من نعمة فمن الله
قال تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} [النحل:53]، قَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- : إِنَّ حَقَّ اللَّهِ أَثْقَلُ مِنْ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْعِبَادُ، وَإِنَّ نِعَمَ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصِيَهَا الْعِبَادُ، وَلَكِنْ أَصْبِحُوا تَوَّابِينَ وامسُوا توابين([1]).
فأضيف إليه سبحانه وتعالى ما هو منفرد به، وإن أضيف إلى غيره؛ فلكونه طريقاً ومجرى للنعمة.
والنعمة: (هي ما قصد به الإحسان والنفع لا لغرض أو عوض) .
وإسباغ العظيم النعم على عباده من أسباب محبته وتعظيمه؛ لأن القلوب مفطورة مجبولة على محبة وتعظيم من أنعم عليها وأحسن إليها، فكيف بمن كان الإحسان منه؟ وما بخلقه جميعهم من نعمة فمنه وحده لا شريك له.
وإذا تأمل العبد وأنصف ربه؛ وجد أَن النعم كلهَا من الله العظيم وَحده: نعم الطَّاعَات، وَنعم اللَّذَّات، فإذا أراد في بقائها وزيادتها لجأ إلى ربه العظيم أَن يلهمه ويوزع شكرها، {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ }[الأحقاف:15]، أي: ألهمني ووفقني.
وشكر الله المنعم العظيم: هو »الاعتراف بنعمة المنعم مع تعظيمه، وتوطين النفس على هذه الطريقة«.
ويكون الشكر بصرف النعم في طاعة مسديها وموليها، ومقابلته منته بالاعتراف والعجز عن الشكر، والاجتهاد في الثناء بها على الله العظيم.
وأخبر سبحانه أن من إخلاص العبادة له سبحانه، شكره وذكره وتعظيمه، قال تعالى: {وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون} [النحل:114]
وذم الله سبحانه من أتاه شيئا من نعمة؛ فقال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي }[القصص:78]
أي: إنما أدركت هذه الأموال بكسبي ومعرفتي بوجوه المكاسب، وحذقي، أو على علم من الله بحالي، يعلم أني أهل لذلك، ونسي المسكين نعم العظيم الجليل عليه.
وقال تعالى : {فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُون}[الزمر:49]
أي: على علم من الله أني له أهل، قال تعالى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} أي النعم التي أوتيتها فتنة نختبره فيها ومحنة نمتحنه بها لا يدل على اصطفائه واجتبائه وأنه محبوب لنا مقرب عندنا.
وقد ذكر تعالى بعض الأمم الذين جحدوا نعمته، ولم يعظِّموه؛ فسلب منهم تلك النعمة، فقوم سبأ لما أعرضوا عن الشكر وجحدوا النعمة، أبدلهم الله مكانها شرًّا ونقمة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُور. فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيل. ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُور}[سبأ:15- 17].
فانظر كيف أبدلهم الله العظيم بالجنات والثمار ذلك الثمر البشع المر، وذلك النبات الذي لا فائدة منه ولا خير، وغيره من النبات الذي لا ثمر له؛ فهذا الجزاء من الواضح تمامًا أنه مترتب على كفر النعمة، والإعراض عن المنعم وعدم تعظيمه وتوقيره.
ومن أجل النعم على العبد نعمة الإيمان والطاعة، فهما منه سبحانه تعليما وإرشادا وإلهاما وتوفيقا ومشيئة وخلقا.
وقد أثنى الله على إبراهيم عليه السلام؛ لشكره لربه وتعظيمه له؛ فقال: {شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ}[النحل:121]
و»المراد أنه كان شاكرًا لجميع نعم الله إن كانت قليلة، فكيف الكثيرة؟«.
إن شكر النعمة وتعظيم الله دليل على استقامة المقاييس في النفس البشرية، فالخير يُشكر؛ لأن الشكر هو جزاؤه الطبيعي في الفطرة المستقيمة، هذه واحدة، والأخرى أن النفس التي تشكر الله على نعمته؛ تراقبه في التصرف بهذه النعمة بلا بطر، وبلا استعلاء على الخلق، وبلا استخدام للنعمة في الأذى، والشر والدنس والفساد. وهذه وتلك مما يزكي النفس، ويدفعها للعمل الصالح، وللتصرف الصالح في النعمة بما ينميها ويبارك فيها ويرضي الناس عنها وعن صاحبها، فيكونون له عونًا ويصلح روابط المجتمع، فتنمو فيه الثروات في أمان، إلى آخر الأسباب الطبيعية الظاهرة لنا في الحياة، وإن كان وعد الله بذاته يكفي لاطمئنان المؤمن، أدرك الأسباب أو لم يدركها، فهو حق واقع؛ لأنه وعد الله العظيم الوفي بوعده.
وتأمل في العهد الذي أخذه موسى عليه السلام على نفسه لربه العظيم المنعم عليه بجلائل النعم: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِين}[القصص:17]، أي: بما جعلت لي من الجاه والعز والنعمة؛ فلن أكون معينا للكافرين بك، المخالفين لأمرك، الذين لم يوقروا ويعظموا أمرك.
فما أعظم هذا العهد الكريم بتعظيم الرب الجليل على ما أولاه من نعم على عبده الفقير.
وتأمل شكر رسول الله ﷺ وتعظيم لربه، روى البخاري بسنده عن أبي أمامة، أن النبي ﷺ كان إذا رفع مائدته قال: (الحمد لله كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، غير مكفيٍّ ولا مودعٍ ولا مستغنًى عنه، ربنا) ([2]).
فهلا اقتدينا بالشاكرين لنعم الله المعظمين للمنعم سبحانه في ذاته وصفاته وأمره ونهيه.
[1] تفسير ابن كثير، ت: سلامة: 4/ 511.
[2] صحيح البخاري، (رقم ٥٤٥٨).