الطمأنينة إلى الله سبحانه حقيقة تَرِد منه سبحانه على قلب عبده تجمعه عليه، وترُدُّ قلبَه الشاردَ إليه حتى كأنه جالس بين يديه، يسمع به ويبصر به ويتحرك به ويبطش به، فتسري تلك الطمأنينة في نفسه وقلبه ومفاصله وقواه الظاهرة والباطنة، تجذب روحه إلى الله، ويلين جلده وقلبه ومفاصله إلى خدمته والتقرب إليه، ولا يمكن حصول الطمأنينة الحقيقة إلا بالله وبذكره ـ وهو كلامه الذي أنزله على رسوله ـ كما قال تعالى: {ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ} [الرعد: 28].
فإن طمأنينة القلب سكونه واستقراره بزوال القلق والانزعاج عنه، وهذا لا يتأتى بشيء سوى الله تعالى وذكره البتة، وأما ما عداه فالطمأنينة إليه وبه غرور، والثقة به عجز.
قضى الله سبحانه وتعالى قضاءً لا مردّ له: أن من اطمأن إلى شيء سواه أتاه القلق والانزعاج والاضطراب من جهته كائنًا من كان، بل لو اطمأن العبد إلى علمه وحاله وعمله سلبه وزايله، وقد جعل سبحانه نفوس المطمئنين إلى سواه أغراضًا لسهام البلاء، ليعلم عبادُه وأولياؤه أن المتعلق بغيره مقطوع، والمطمئن إلى سواه عن مصالحه ومقاصده مصدود وممنوع.
وحقيقة الطمأنينة التي تصير بها النفس مطمئنة، أن تطمئن في باب معرفة أسمائه وصفاته ونعوت كماله إلى خبره الذي أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله فتتلقاه بالقبول، والتسليم، والإذعان، وانشراح الصدر له، وفرح القلب به، فإنه مُعرِّف من معرفات الرب سبحانه إلى عبده على لسان رسوله، فلا يزال القلب في أعظم القلق والاضطراب في هذا الباب حتى يخالط الإيمان بأسماء الرب تعالى وصفاته وتوحيده وعلوه على عرشه، وتكلمه بالوحي بشاشة قلبه، فينزل ذلك عليه نزول الماء الزلال على القلب الملتهب بالعطش، فيطمئن إليه، ويسكن إليه، ويفرح به، ويلين له قلبه ومفاصله حتى كأنه شاهد الأمر كما أخبرت به الرسل، بل يصير ذلك لقلبه بمنزلة رؤية الشمس في الظهيرة لعينه، فلو خالفه في ذلك مَن بين شرق الأرض وغربها لم يلتفت إلى خلافهم.
قال إذا استوحش من الغربة: قد كان الصِّدِّيق الأكبر مطمئنًا بالإيمان وحده، وجميع أهل الأرض يخالفه، وما نقص ذلك من طمأنينته شيئًا.
فهذا أول درجات الطمأنينة ثم لا يزال يقوى كلما سمع بآية متضمنة لصفة من صفات ربه.
وهذا أمر لا نهاية له فهذه الطمأنينة أصل أصول الإيمان التي عليه بناؤه.
ثم يطمئن إلى خبره عمّا بعد الموت من أمور البرزخ وما بعدها من أحوال القيامة، حتى كأنه يشاهد ذلك كله عيانًا، وهذا حقيقة اليقين الذي وصف به سبحانه وتعالى أهل الإيمان حيث قال: {وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4]، فلا يحصل الإيمان بالآخرة حتى يطمئن القلب إلى ما أخبر الله سبحانه به عنها طمأنينة إلى الأمور التي لا يشك فيها ولا يرتاب، فهذا هو المؤمن حقًا باليوم الآخر، كما في حديث حارثة: أصبحتُ مؤمنًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((انْظُرْ مَا تَقُولُ، فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟))، قال: يَا رَسُولَ اللهِ، عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، فَأَسْهَرْتُ لَيْلِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، فَكَأَنِّي بِعَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَعَاوُونَ فِيهَا. فقال: ((أَبْصَرْتَ فَالْزَمْ. عَبْدٌ نَوَّرَ اللهُ تَعَالَى الإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ)).