وفي أنفسكم أفلا تبصرون؟
قال قَتَادَة – رَضِي الله عَنهُ-: من تفكر فِي خلقه؛ علم أَنما لينت مفاصله لِلْعِبَادَةِ ([1]).
فالمعَظِّم لربه الخاضع له والذي استخدم أعضاءه في عبادة ربه؛ يوفق في الآخرة للسجود لله سبحانه، وأما المنافق فلا يستطيع ذلك ويعود ظهره طبقاً واحداً كلما أراد السجود خر لقفاه، روى البخاري بسنده عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، فَيَبْقَى كُلُّ مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ، فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا»([2]).
ففي خلق الله العظيم للإنسان مظاهر وحدانيته وعظمته، وغاية خلقه الخضوع والذل له بعبادته، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون}[الذاريات:56].
ولما كان أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه؛ دعاه خالقه وبارئه ومصوره وفاطره من قطرة ماء إلى التبصر والتفكر في نفسه، فإذا تفكر الانسان في نفسه؛ استنارت له آيات الربوبية، وسطعت له أنوار اليقين، واضمحلت عنه غمرات الشك والريب، وانقشعت عنه ظلمات الجهل، فإنه إذا نظر في نفسه؛ وجد آثار التدبير فيه قائمات، وأدلة التوحيد على ربه ناطقات، شاهدة لمدبره دالة عليه مرشدة إليه ([3])، قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُون} [الذاريات:21].
فالعظيم سبحانه يرشد عباده أن يتفكروا: كيف أنشأهم من ماء، وكيف خلقهم أطواراً، أليس كل طور هو إيجاد خلق لم يكن موجوداً قبل؟.
فالموجود في الصبي لم يكن موجوداً فيه حين كان جنيناً، والموجود في الشيخ لم يكن فيه حين كان غلاماً، وما هي عند التأمل إلا مخلوقات مستجدة كانت معدومة؛ دلت على عظمة خالقه وبارئه.
وليتأمل المرء أعجب ما في نفسه وهو: خَلْق العقل وحركاته، واستخراج المعاني، وخلق النطق، والإلهام إلى اللغة، وخلق الحواس، وحركة الدورة الدموية، وانتساق الأعضاء الرئيسة، وتفاعلها وتسوية المفاصل والعضلات والأعصاب والشرايين وحالها بين الارتخاء واليبس؛ فإنه إذا غلب عليها التيبس جاء العجز، وإذا غلب الارتخاء جاء الموت؛ ألا يدل ذلك على عظمة الخالق سبحانه؟
وليتأمل العبد كيف جعل الله جلد الوجه يتحمل الحرارة والبرودة أكثر من غيره من الأعضاء؛ ذلك لأن الوجه مكشوف دائمًا، ومعرض لكل عوامل الطبيعة.
وليتأمل ويتخيل: ماذا لو كان الجلد شفافًا؟
لأصبح شكل الإنسان بشعًا!!، فستظهر أعضائه الداخلية من خلال ذلك الجلد، إلا أن العظمة الإلهية قد اقتضت أن يكون ذلك الجلد غير شفاف؛ فيظهر الإنسان في أحسن تقويم.
وماذا لو كان بالجلد فجوات او فتحات تُمَكِّن الماء والأشعة والبكتيريا من الدخول إلى داخل جسم الإنسان؟؟
بالتأكيد لكان ذلك سيضر الإنسان كثيراً، إلا أن اللطف الإلهي جعل ذلك الجلد بمثابة حماية لجسم الإنسان من خطر الأشعة والبكتيريا الضارة، ألا يدل ذلك على عظمته سبحانه؟
وتخيل لو لم تكن هناك إمكانية لخروج العرق من الجسم عن طريق مسام الجلد؟؟
لارتفعت حرارة الجسم كثيراً، إلا أن العظمة الإلهية قد سمحت بأن يكون هناك منافذ لتلك الحرارة الزائدة؛ لتخرج مع العرق.
ماذا لو لم تكن هناك إمكانية لنمو خلايا الجلد مرة أخرى بعد الجروح أو التشقق، ماذا يكون شكل الجلد وقتها؟؟
سيكون شكله بشعًا؛ لأن ما من أحد فينا إلا وسيتعرض حتما للجروح أو فقدان بعض أجزاء جلده، فلو تحقق ذلك لملأت جلد الإنسان الجروح والتشققات، وهذا كان سيخل بشكله الجمالي، إلا أن اللطف الإلهي قد أبى إلا المحافظة على هذه الهيئة الجميلة للإنسان؛ فجعل هناك إمكانية لنمو خلايا الجلد من جديد؛ إنها العظمة الإلهية من خالق مبدع حكيم.
وتأمل كيف جعل الله بعض العظام حماية لبعض الأعضاء الرخوة من العوامل الخارجية؛
فالجمجمة تحمي المخ من العوامل الخارجية، وكذلك القفص الصدري؛ فإنه يحمي القلب والرئتين، وأيضًا العمود الفقري الذي يحمي النخاع الشوكي، ألا يدل ذلك على العظمة الإلهية؟
ومن لطف الخالق أنه خلق بين المفاصل (مواضع التقاء عظمتين) سائلًا يسهل عملية الحركة، ولولا ذلك السائل لما استطاع الإنسان أن يمشي ولصرخ من الألم عند كل حركة؛ وذلك لأن هذا السائل هو الذي يُسِّهل الحركة.
وتأمل في خلق الله المخ حيث كل منطقة فيه تختص بعمل ووظيفة محددة: فهناك منطقة خاصة بالرؤية، وأخرى خاصة بالسمع، وثالثة مختصة بالحركة، ورابعة للتذوق، وخامسة للشم، بالإضافة إلى ذلك؛ فهناك مراكز خاصة للكلام والكتابة والتفكير.
فسبحانه من رب عظيم؛ خلق فسوى وأبدع وأحكم!
ومع كل هذه العظمة وهذا الإتقان وهذا الإبداع في الخلق؛ نرى من ينكر وجود الخالق المبدع عز وجل، ويعبد ويُعظِّم غيره؛ فسبحان من قال: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور}[الحج:46].
[1] الدر المنثور: 7/ 619.
[2] صحيح البخاري: باب {يوم يكشف عن ساق} [القلم: 42]،( 4919).
[3] التبيان في أقسام القرآن، ابن القيم: 305.