عرفته.. فكيف تعصيه؟
قيل لذي النون-رحمه الله- : بم عرفت الله ربك؟
قال: عرفت ربي بربي، ولولا ربي لما عرفت ربي([1]).
عرَّفنا من خلال كتابه أنه – عز وجل – الذي إذا قدر عفا، وإذا وعد وفىّ، وإذا أعطى زاد على منتهى الرجاء، ولا يبالي كم أعطى، ولمن أعطى، وإن رفعت حاجة إلى غيره لا يرضى، وإذا جُفي عَاتَب، وما استقصى، ولا يضيع من لاذ به والتجأ.
وعرَّفنا من خلال تلقين رسوله ﷺ {بِيَدِكَ الْخَيْرُ}[آل عمران:26] أن الخير كله بيده، وأخبرنا رسوله ﷺ في سنته أن كل خير واصل إلى العباد ومرجو وصوله، فهو في يديه تعالى: (والخيرُ كلُّه في يدَيْكَ)([2])، وأخبرنا سبحانه أَن النعم كلهَا منه وَحده نعم الطَّاعَات وَنعم اللَّذَّات، {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ}[النحل:53]، والتوفيق إلى ذكرها وشكرها فضل منه؛ فالعبد لا خروج له عن نعمته وفضله ومنته وإحسانه طرفة عين لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وبعد ذلك كله تحملك كثرة نعم الله عليك على هتك أستار محارمه؟
وأخبرنا سبحانه في كتابه أنه سبحانه ذمَّ من أتاه شيئاً من نعمه ولم يشكره عليها؛ فقال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}[القصص:78]، أي: إنما أدركت هذه الأموال بكسبي ومعرفتي بوجوه المكاسب، وحذقي، أو على علم من الله بحالي، يعلم أني أهل لذلك، وفي الآية الأخرى: {فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُون}[الزمر:49]، أي النعم التي أوتيتها فتنة نختبره فيها ومحنة نمتحنه بها.
و عرَّفنا سبحانه في كتابه بِمَا جرى على أبينا آدم من شُؤْم الْمعْصِيَة {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}[طه:121]
وأخبرنا سبحانه في كتابه عن القرية التي كانت آمنة مطمئنة، ويسر لها الرزق يأتيها من كل مكان، فكفرت بنعمة الله عليهم، فأذاقهم الله ضد ما كانوا فيه، وألبسهم لباس الجوع والخوف؛ وذلك بسبب صنيعهم وعدم شكرهم قال تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون}[النحل:112].
وعرفنا سبحانه أنه السيد العظيم المطاع الذي لا ينبغي الاغترار به، ولا إهمال لحقه.
وبعد هذا التعريف والتحذير تعصيه؟
ألا تستحي وتتأدب معه؟ حيث مع كثرة معاصيك لم يمنع عنك عطاءه وكرمه وجوده.
أما تخاف من أن تزداد منه بعدًا؛ إذا سخط عليك؟
روي أن رجلا جاء إلى إبراهيم بن أدهم- رحمه الله- فقال له: يا أبا إسحاق! إني مسرف على نفسي فاعرض علي ما يكون لها زاجراً ومستنقذاً لقلبي.
قال: إن قبلت خمس خصال وقدرت عليها لم تضرك معصية ولم توبقك لذة.
قال: هات يا أبا إسحاق!
قال: أما الأولى فإذا أردت أن تعصي الله – عز وجل – فلا تأكل رزقه.
قال: فمن أين آكل وكل ما في الأرض من رزقه؟
قال له: يا هذا! أفيحسن أن تأكل رزقه وتعصيه؟ قال: لا هات الثانية!
قال: وإذا أردت أن تعصيه فلا تسكن شيئا من بلاده، قال الرجل: هذه أعظم من الأولى! يا هذا! إذا كان المشرق والمغرب وما بينهما له فأين أسكن؟ قال: يا هذا! أفيحسن أن تأكل رزقه وتسكن بلاده وتعصيه؟ قال: لا هات الثالثة.
قال: إذا أردت أن تعصيه وأنت تحت رزقه وفي بلاده فانظر موضعا لا يراك فيه مبارزاً له فاعصه فيه قال: يا إبراهيم! كيف هذا وهو مطلع على ما في السرائر؟
قال: يا هذا! أفيحسن أن تأكل رزقه، وتسكن بلاده، وتعصيه وهو يراك ويرى ما تجاهره به؟!.
قال: لا هات الرابعة.
قال: إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك فقل له: أخرني حتى أتوب توبة نصوحاً وأعمل لله عملاً صالحا قال: لا يقبل مني.
قال: يا هذا! فأنت إذا لم تقدر أن تدفع عنك الموت لتتوب وتعلم أنه إذا جاء لم يكن له تأخير فكيف ترجو وجه الخلاص؟ قال: هات الخامسة.
قال: إذا جاءتك الزبانية يوم القيامة ليأخذونك إلى النار فلا تذهب معهم.
قال: لا يدعونني ولا يقبلون مني. قال: فكيف ترجو النجاة إذا؟
قال له: يا إبراهيم! حسبي أنا أستغفر الله وأتوب إليه.
ولزمه في العبادة حتى فرَّق الموت بينهما ([3]).
اللهم ثبت علينا النعم التي نحن فيها بإدامة شكرها، وحَقق لنا النعم التي نرجوها بحسن الظن بك ودوام طاعتك، وعرفنا النعم التي نحن فيها ولا نعرفها لنشكرها، وجنبنا المعاصي التي تزيل النعم.
===============ـ
[1] مدارج السالكين، ابن القيم: 3/ 319.
[2] صحيح ابن حبان،رقم (1773)
[3] كتاب التوابين، لابن قدامة المقدسي: 169.