دلالات تعظيم الربوبية في استغفار الأنبياء
تعظيم الله تعالى هو الأساس الذي يقوم عليه الدين، وهو من أوجب الواجبات وأشرف القربات، وأعظم ما وقر في قلوب المؤمنين، فاستقامت جوارحهم على طاعة الله وطلب مرضاته.
والأنبياء هم أكمل البشر وأقربهم من الله تعالى، وأشدهم له تعظيمًا وإجلالًا، وقد جعل الله تعالى من سلوك الأنبياء والرسل قدوةً ليسترشد المؤمنون بأفعالهم وأقوالهم في عبادة الله تعالى وتعظيمه وحُسنِ الفهم عنه تبارك وتعالى، قال تعالى عنهم: {اُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90]، وهدْي الأنبياء عليهم السلام في تعظيم الله تعالى هو خير الهَدْي؛ فالله تعالى هو الذي تولَّى هدايتهم وتأديبهم وعصمتهم عن الضلال والإضلال([1]).
وقد ورد استغفارُ الأنبياء وضراعتُهم لله تعالى في مواطن كثيرة من قصصهم في القرآن الكريم، والذي جاء غالبًا مُصَدَّرًا بنداء الربوبية المجيد: “ربِّ” “ربَّنا”، وفي ذلك ما لا يخفى من دلالات التعظيم لله تعالى.
فإن وصفُ الربوبية يجتمع فيه ثلاث صفات: الخَلق والمُلك والتدبير، فالرب جلّ وعلا هو الخالق المالك لكل شيءٍ المدبّر لجميع الأمور([2]).
كما إن كلمة “الرب” تثير في النفس معانٍ، منها: أنه سبحانه المتكفل بخلق الموجودات وإنشائها، ورزقها، وكفالتها التامة، القائم على هدايتها وإصلاحها، فهو المربي لأوليائه، الموفقهم للإيمان به، الذي يحفظهم، ويدفع عنهم الصوارف([3]).
والاستغفار هو طلب الغفران من الله باللسان والقلب، وهو من الأذكار التي يعظم ثوابها لما يترتب عليه من محو الذنوب وغفرانها، فهو من دعاء المسألة والطلب.
فإذا كان الرب سبحانه هو وحده صاحب الخلق والتدبير، وواهب الخير والنعم، وهو وحده القادر على مغفرة الذنوب ومحوْها، وإذا كان العبد ملازمًا للخطأ بمقتضى طبيعته البشرية؛ فلا يزال مفتقرًا إلى طلب المغفرة والتطهر من الذنوب من ربه الغفار التوّاب. لذا كان إظهار الفقر والذلة والمسكنة حال الدعاء استغفارًا من دلالات تعظيم الربوبية في دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وأول ذلك استغفار آدم عليه السلام، فقد أوحى الله إليه بكلمات النجاة: {فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37]، وكانت تلك الكلمات هي كلمات الاعتراف بالخطأ، وطلب المغفرة والرحمة من الله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
وهذا نوح عليه السلام، كان اقتران الاستغفار بنداء الربوبية هو المنهج الذي علّمه لقومه ووجههم إليه، فقال آمرًا لهم بالاستغفار مع وعدهم بثمرات الدعاء وخيراته وبركاته – والتي هي كلها من أفعال الربوبية -: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10-12].
وسار على ذات المنهج أخوه هود عليه السلام، حين قال لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود:52].
وشعيب عليه السلام يأمر قومه بالاستغفار مذكرًا لهم برحمته ومودته لعباده كي يبعث فيهم باعث التعظيم له: {وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّى رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:9].
وعلى الرغم من أن الأنبياء الكرام معصومون؛ إلا أن قلوبهم الليِّنة الخاشعة قد امتلأت محبةً وخضوعًا لله تعالى؛ فنراهم ضارعين لربهم بالدعاء والاستغفار تعظيمًا، طامعين في مغفرته ورضوانه إجلالاً، فيستجيب لهم مَن أنعم عليهم، ويبشّرهم بالمغفرة والإجابة من فوره.
قال تعالى عن نبيه داود: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ، فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص:25،24].
وفي استغفار سليمان عليه السلام يقول تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ، فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36،35].
وفي استغفار موسى يظهر أدب العبودية في اتهام النفس مقابل طلب المغفرة من ربه سبحانه، فتأتيه الإجابة بالمغفرة على الفور، {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص:16].
وخاتمة العقد، ودرة التاج، نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو أعلم الخلق بالله تعالى وأكثرهم تعظيمًا له، كان كثير الاستغفار، فيقول ﷺ: ((إنِّي لَأستَغفِرُ اللهَ في كُلِّ يَومٍ مِئةَ مَرَّةٍ)) رواه أبو داود: 1515.
إنّ القرآن الكريم حين يعرض لنا تلك النماذج المتعددة من استغفار الأنبياء وتضرعهم، بالوصف الدقيق لكيفية أدائه، وقوة تعبير ألفاظه مع إظهار انكسارهم في مقام تعظيم الله والثناء عليه بأوصاف كمال الربوبية وعزّها؛ ليدعونا إلى الاقتداء بهم في استغفارهم، لفظًا وحالًا ومعنىً، ليكون حاضرًا في قلوبنا ملازمًا لأذهاننا، كما أمر الله تعالى عباده المتقين، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]. وقد وعد سبحانه بأنه غفّار للمستغفرين التائبين: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ} [طه: 82]. وعند تحقيقنا لتعظيم ربنا والاعتراف بربوبيته فإننا نسلك مسالك الأنبياء بما يعود علينا بسعادتنا في الدنيا والآخرة.
==========
([1]) فيض القدير شرح الجامع الصغير، (2/175).