إبراهيم عليه السلام إمام التوحيد وتعظيمه لربه
عن وهيب بن الورد- رحمه الله-: أنه قرأ: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } ثم يبكي ويقول: يا خليل الرحمن، ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يتقبل منك([1]).
فتأمل في حالة رفع إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام- قواعد البيت الأساس، والذي هو علم التوحيد، واستمرارهما على هذا العمل العظيم، وكيف كانت حالهما من الخوف والرجاء؛ تعظيمًا لله، حتى إنهما مع هذا العمل دعوا الله أن يتقبل منهما عملهما، حتى يحصل فيه النفع العميم، قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم}[البقرة:127].
قوله:{ربنا تقبل منا} أي عملنا بفضلك، ولا ترده علينا؛ إشعاراً بالاعتراف بالتقصير لحقارة العبد؛ وإن اجتهد في جنب عظمة مولاه.
إنه أدب النبوة مع ربهم العظيم، وإيمان النبوة بالله الجليل، وشعور النبوة بقيمة العقيدة في هذا الوجود، وهو الأدب والإيمان والشعور الذي يريد القرآن أن يعلمه لورثة الأنبياء، وأن يعمقه في قلوبهم ومشاعرهم؛ إنه طلب القبول، هذه هي الغاية؛ فهو عمل خالص للّه. الاتجاه به في قنوت وخشوع إلى اللّه. والغاية المرتجاة من ورائه هي الرضى والقبول، والرجاء في قبوله متعلق بأن اللّه سميع للدعاء. عليم بما وراءه من النية والشعور.
وتأمل أمر الله رسوله بأن يذكر قصة إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، مثنيًا عليه ومعظمًا في حال دعوته إلى التوحيد، ونهيه عن الشرك، قال تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِين. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِين. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِين. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُون. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِين}[الأنعام:74-79].
فقد ناظر إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- قومه؛ مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام، موضحًا دلالة أحوال الموجودات على وجود صانعها، وعظمته وجلاله:
فبين أولا أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية؛ لأنها مسخرة مقدرة بسير معين، لا تزيغ عنه يمينا ولا شمالا ولا تملك لنفسها تصرفا، بل هي جرم من الأجرام خلقها الله منيرة، لما له في ذلك من الحكم العظيمة، وهي تطلع من المشرق، ثم تسير فيما بينه وبين المغرب حتى تغيب عن الأبصار فيه، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال. ومثل هذه لا تصلح للإلهية. ثم انتقل إلى القمر. فبين فيه مثل ما بين في النجم.
ثم انتقل إلى الشمس كذلك. فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار، وتحقق ذلك بالدليل القاطع، { قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُون } أي: أنا بريء من عبادتهن وموالاتهن، فإن كانت آلهة، فكيدوني بها جميعا ثم لا تنظرون، { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِين } أي: إنما أعبد خالق هذه الأشياء ومخترعها ومسخرها ومقدرها ومدبرها، الذي بيده ملكوت كل شيء، وخالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه([2]).
فكشف الله لإبراهيم – عليه الصلاة والسلام- من خلال دلائل مخلوقاته، وعظمة سلطانه كشفا يطلعه على حقائقها، ومعرفة أن لا خالق ولا متصرف فيما كُشِفَ له سوى الله العظيم.
فهلا تعلمنا من إمام الموحدين – عليه الصلاة والسلام -أدب التعظيم لله، والاستدلال على عظمة الصانع من خلال التأمل في مخلوقاته وكيفية تدبيرها على نظام محكم.
[1] تفسير ابن كثير: 1/ 427.
[2] تفسير ابن كثير: 3/ 292.