مرحباً بكم فى مشروع تعظيم الله

من مقالات مشروع تعظيم الله

بين الرب وبين المربوب

بين الرب وبين المربوب

قرأ قارئ: { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَت. وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَت. وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَت} [التكوير:1-3]. وفي الحاضرين أبو الوفاء بن عقيل-رحمه الله-؛ فقال له قائل: يا سيدي هب أنه أنشر الموتى للبعث والحساب، وزوَّج النفوس بقرنائها بالثواب والعقاب؛ فلم هدم الأبنية وسيَّر الجبال، ودك الأرض، وفطر السماء، ونثر النجوم، وكوَّر الشمس؟

فقال: “إنما بنى لهم الدار للسكنى والتمتع، وجعلها وجعل ما فيها للاعتبار والتفكر والاستدلال عليه بحسن التأمل والتذكر؛ فلما انقضت مدة السكنى، وأجلاهم من الدار؛ خربها لانتقال الساكن منها؛ فأراد أن يعلمهم بأن الكونين كانت معمورة بهم، وفي إحالة الأحوال، وإظهار تلك الأهوال، وبيان المقدرة بعد بيان العزة، وتكذيب لأهل الإلحاد، وزنادقة المنجمين، وعباد الكواكب والشمس، والقمر، والأوثان؛ فيعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين، فإذا رأوا آلهتهم قد انهدمت وأن معبوداتهم قد انتثرت وانفطرت ومحالها قد تشققت؛ ظهرت فضائحهم، وتبين كذبهم، وظهر أن العالمَ مربوبٌ محدث مُدَبَّر، له رب يصرِّفه كيف يشاء([1]).

ففي هدم دار الدنيا دلالة على عِظم عزته، وقدرته، وسلطانه، وانفراده بالربوبية، وانقياد المخلوقات بأسرها لقهره.

وأثبت سبحانه ربوبيته للعالمين فقال تعالى: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [الفاتحة:2]، والعالم كل ما سواه، فثبت أن كل ما سواه مربوب، والمربوب مخلوق بالضرورة، وكل مخلوق حادث بعد أن لم يكن، فإذا ربوبيته تعالى لكل ما سواه تستلزم تقدمه عليه، وحدوث المربوب.

وقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير} [الأنعام:18]، فلا يتصرف منهم متصرف، ولا يتحرك متحرك، ولا يسكن ساكن، إلا بمشيئته، وليس للملوك وغيرهم من المربوبين الخروج عن ملكه وسلطانه، بل هم مدَبَّرون مقهورون، فإذا كان هو القاهر وغيره مقهوراً؛ كان هو المستحق للعبادة والتعظيم والإجلال.

فالملك والقدرة والقوة والعزة كلها لله الواحد القهار، ومن سواه مربوب مقهور، له ضد، ومناف ومشارك: فخلق الرياح وسلَّط بعضها على بعض تصادمها وتكسر سورتها وتذهب بها، وخلق الماءَ وسلَّط عليه الرياح تصرفه وتكسره، وخلق النار وسلَّط عليها الماءَ يكسرها ويطفئها، وخلق الحديد وسلَّط عليه النار تذيبه وتكسر قوته، وخلق الحجارة وسلَّط عليها الحديد يكسرها ويفتتها، وخلق آدم وذريته وسلَّط عليهم إبليس وذريته، وخلق إبليس وذريته وسلَّط عليهم الملائكة يشردونهم كل مشرد ويطردونهم كل مطرد، وخلق الحر والبرد والشتاء والصيف وسلَّط كلا منها على الآخر يذهبه ويقهره، وخلق الليل والنهار وقهر كلا منهما بالآخر، وكذلك الحيوان على اختلاف ضروبه من حيوان البر والبحر لكل منه مضاد، ومغالب؛ فاستبان للعقول والفطر أن القاهر الغالب لذلك كله واحد، وأن غيره مربوب له، مذعن لعظمته وجلاله.

فكل أهل السماء مربوبون يعظمونه ويحبونه ويعبدونه، وأهل الأرض مربوبون يعظمونه ويجلونه، وإن أشرك به من أشرك، وعصاه من عصاه وجحد صفاته من جحدها؛ فكل أهل الأرض معظمون له مجلون له، خاضعون لعظمته مستكينون لعزته وجبروته، قال تعالى: {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُون} [الروم:26].

والقنوت هنا هو العبودية العامة التي تشترك فيها أهل السموات والأرض، لا يختص بها بعضهم عن بعض، ولا يختص بزمان دون زمان، وهي عبودية القهر.

فهو المتصرف فيهم، وهو خالقهم ورازقهم، ومقدرهم ومسخرهم، ومسيرهم ومصرفهم، كما يشاء، والجميع عبيد له، وملك له.

وتأمل في شهادة المسيح – عليه السلام- على نفسه بأنه عبد الله مربوب: {إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم}[آل عمران:51]؛ فضحاً لمن جعله إله من دون الله.

أي: أنا وأنتم سواء في العبودية له والخضوع والاستكانة إليه؛ وهذا إقراره عليه السلام بأنه عبد مدبر مخلوق، وفي هذا رد على النصارى القائلين بأن عيسى إله أو ابن الله.

فما هو برب؛ وإنما هو عبد مربوب، وعليهم أن يتوجهوا بالعبادة إلى الرب، والتعظيم له، فلا عبودية إلا للّه.

وتأمل في اعتراف إبليس بربوبية الله، وأنه خالقه ومالكه، وأنه مخلوق له مربوب تحت أوامره ونواهيه، قال تعالى: {رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين – إلا عبادك منهم المخلصين} [الحجر: 39 – 40]؛ فضحًا لمن عظَّمه، واستجاب لدعوته.

 

وكذلك القلب مربوب مقهور تحت سلطانه لا يتحرك إِلا بإِذنه ومشيئته، قال أَعلم الخلق بربه ﷺ: “مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا وَهُوَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إِنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ، وَإِنْ  شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ ” وَكَانَ يَقُولُ: ” يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ”([2]).

فكن على علم ويقين أن (له معنى الرُّبُوبيَّةِ ولا مَرْبُوبَ).

فقبل أن يكون ثَمَّ مربوب هو – عز وجل – الرب العظيم سبحانه وتعالى.

فاعلم قدر نفسك؛ فإنك مربوب، واعلم قدر ربك؛ وعظِّمه في جميع مناحي حياتك؛ تسعد بدنياك وأخرتك.

[1] بدائع الفوائد : 3/ 182.

[2] مسند أحمد،(17630),

جميع الحقوق محفوظه مشروع تعظيم الله © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود
الأعلىtop