لو عظَّموا الله لعَزُّوا عَلَيْهِ ولَعَصَمَهُمْ
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ- رحمه الله- في أهل المعاصي: هَانُوا عَلَيْهِ فَعَصَوْهُ، وَلَوْ عَزُّوا عَلَيْهِ لَعَصَمَهُمْ، وَإِذَا هَانَ الْعَبْدُ عَلَى اللَّهِ لَمْ يُكْرِمْهُ أَحَدٌ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [سُورَةُ الْحَجِّ: 18] وَإِنْ عَظَّمَهُمُ النَّاسُ فِي الظَّاهِرِ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِمْ أَوْ خَوْفًا مِنْ شَرِّهِمْ، فَهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ أَحْقَرُ شَيْءٍ وَأَهْوَنُهُ([1]).
قال تعالى في آية سجود المخلوقات له: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء}[الحج:18].
يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له؛ فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعاً وكرهاً.
وإذا كانت المخلوقات كلها ساجدة لربها، خاضعة لعظمته، مستكينة لعزته، عانية لسلطانه؛ دل على أنه وحده، الرب المعبود، والملك المحمود، وأن من عدل عنه إلى عبادة سواه، فقد ضل ضلالا بعيدا، وخسر خسرانا مبينا.
وإذا تدبر المرء هذه الآية؛ فإذا حشد من الخلائق مما يدرك الإنسان ومما لا يدرك، وإذا حشد من الأفلاك والأجرام، مما يعلم الإنسان ومما لا يعلم، وإذا حشد من الجبال والشجر والدواب في هذه الأرض التي يعيش عليها الإنسان، إذا بتلك الحشود كلها في موكب خاشع تسجد كلها للّه تعظيماً وإجلالاً، وتتجه إليه وحده دون سواه، إلا ذلك الإنسان العاصي؛ فهو وحده الذي خالف هذا الحشد من المعظمين لربهم، فأهانهم الله، وقد ذل وهان من دان لغير الديان.
ومن ذا يكرم من أهانه الله؟ أو يهن من أكرمه الله؟
والعاصي الذي يخلو بمعاصي الله ولا يعظِّم ربه؛ يُلْقي الله بغضه في قلوب المؤمنين، عن أبي الدرداء قال: ليحذر امرؤ أن تلعنه قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر، ثم قال: أتدري مم هذا؟ قلت: لا، قال: إن العبد يخلو بمعاصي الله؛ فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر([2]).
وتأمل من عظَّم الله بحسن مراقبته لربه، وتقواه وصبره؛ عصمه ربه، وصرف عنه السوء والفحشاء؛ لأنه من عباده المخلصين له في عباداتهم، الذين أخلصهم الله واختارهم، واختصهم لنفسه، وأسدى عليهم من النعم، وصرف عنهم من المكاره ما كانوا به من خيار خلقه، قال تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِين} [يوسف:24].
أي: بسبب إخلاصه صرفنا عنه السوء، وكذلك كل مخلص في كل زمن ومكان؛ يصرف الله عنه السوء والفحشاء، فالإخلاص روح التعظيم.
وتأمل كيف لا يقدم المعظم لله، المعظم لأمره على الذنوب الكبار، خصوصاً ومنها القتل: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِين}[المائدة:28].
وحُرِمَ أخوه الذي يقتضي الطبع حمايته وصيانته والدفع عنه من العصمة الإلهية التي من أسبابها التقوى؛ فأقدم على قتل أخيه: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِين} [المائدة:30].
فلما خلى الله بينه وبين نفسه، ووكله إليها؛ طوعت له نفسُه قتل أخيه الذي يقتضي الشرع احترامه، فلم يُعظِّم الشرع فيما أمره به العظيم سبحانه وتعالى.
وتأمل قوله تعالى: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13].
أي أنهم لَو عظّموا الله، وَعرفُوا حق عَظمته؛ وحّدوه وأطاعوه وشكروه؛ فطاعته سُبْحَانَهُ اجْتِنَاب مَعَاصيه، وَالْحيَاء مِنْهُ بِحَسب وقاره فِي الْقلب.
وَمن وقار الله في قلب العبد: أَن يستحي من اطِّلَاعه على سره وضميره؛ فَيرى فِيهِ مَا يكره.
وَمن وقار الله في قلب العبد: أَن يستحي مِنْهُ فِي الْخلْوَة أعظم مِمَّا يستحي من أكَابِر النَّاس.
وَمن لم يُوقِر الله في قلبه؛ فَإِن الله لَا يلقِي لَهُ فِي قُلُوب النَّاس وقارا وَلَا هَيْبَة بل يسْقط وقاره وهيبته فِي قُلُوبهم، وَإِن وقّروه مَخَافَة شرّه؛ فَذَاك وقار بغض لَا وقار حب وتعظيم.
اللهم اجعلنا نخشاك كأننا نراك، وأسعدنا بتقواك.
[1] الجواب الكافي، لابن القيم: ص 58.
[2] المرجع السابق: ص 53.