تسكن في أرضه ثم تعصيه؟!
قال الجنيد([1])– رحمه الله- : كنت بَيْنَ يدي السري([2]) ألعب، وأنا ابْن سبع سنين، وبين يديه جَمَاعَة يتكلمون فِي الشكر؛ فَقَالَ لي: يا غلام مَا الشكر؟
فَقُلْتُ: أَن لا تعصى اللَّه بنعمة؛ فَقَالَ: يوشك أَن يَكُون حظك من اللَّه تَعَالَى لسانك.
قَالَ الجنيد: فلا أزال أبكي عَلَى هذه الكلمة الَّتِي قالها السري ([3]).
فكيف يعصي العبد ربه العظيم المنعم عليه في نعمة أنعم بها عليه، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور} [الملك:15]
أخْبر الله المنعم العظيم أَنه جعل الأرض ذلولا منقادة للْوَطْء عَلَيْهَا، وحفرها وشقّها وَالْبناء عَلَيْهَا وَلم يَجْعَلهَا مستصعبة ممتنعة على من أَرَادَ ذَلِك مِنْهَا، وَأخْبر سُبْحَانَهُ أَنه جعلهَا مهادا، وفراشا، وبساطا وقرارا، وكفاتا، دحاها وطحاها، وَأخرج مِنْهَا ماءها ومرعاها، وثبَّتها بالجبال، ونهج فِيهَا الفجاج والطرق وأجرى فِيهَا الْأَنْهَار والعيون، وَبَارك فِيهَا وقدّر فِيهَا أقواتها:
وَمن بركتها: أَن الْحَيَوَانَات كلهَا وأرزاقها وأقواتها تخرج مِنْهَا.
وَمن بركاتها: أَنَّك تودع فِيهَا الْحبّ فتخرجه لَك أَضْعَاف أَضْعَاف مَا كَانَ.
وَمن بركاتها: أَنَّهَا تحمل الْأَذَى على ظهرهَا، وَتخرج لَك من بَطنهَا أحسن الْأَشْيَاء وأنفعها، فتوارى مِنْهُ كل قَبِيح، وَتخرج لَهُ كل مليح.
وَمن بركتها: أَنَّهَا تستر قبائح العَبْد، وفضلات بدنه وتواريها، وتضمّه وتؤويه، وَتخرج لَهُ طَعَامه وَشَرَابه فَهِيَ أحمل شَيْء للأذى وأعوده بالنفع.
فكيف تعصي الله المنعم العظيم عليها، وقد جعلها لك سكناً؟
والله تعالى المنعم العظيم جعل الأرض محل بيوته التي يذكر فيها اسمه، ويسبح له فيها بالغدو والآصال عموما، وبيته الحرام الذي جعله قياما للناس مباركا فيه وهدى للعالمين خصوصا، ولو لم يكن في الأرض إلا بيته الحرام؛ لكفاها ذلك شرفا وفضلا.
وقد قال الرسول ﷺ: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ مِنَ الأنْبِيَاءِ قَبْلِي… وجُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا، وأَيُّما رَجُلٍ مِن أُمَّتي أدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ…([4]).
واختص الله ترابها بالتَّيمُّمِ؛ تيسيرًا وتخفيفًا عندَ انعِدامِ الماءِ، أو عدَمِ القُدرةِ على استِخدامِه.
فكيف تعصي الله المنعم العظيم في مكان جعله موضع سجود وتعظيم لجلاله؟
وأخبرنا الرسول ﷺ إن البقعة، والدار، والجبل، والأرض تشهد للعبد أو عليه يوم القيامة، عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: «قرأ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هذه الآيةَ: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4]، قال: أتدرونَ ما أخبارُها؟ قالوا: اللهُ ورسولُهُ أعلَمُ، قال: فإنَّ أخبارَها أنْ تشهَدَ على كلِّ عبدٍ وأَمَةٍ بما عمِلَ على ظَهرِها، تقولُ: عمِلَ يومَ كذا: كذا وكذا؛ فهذه أخبارُها ([5]).
ويوم قيام الأشهاد، وأداء الشهادات، يفرح العبد ويغتبط بشهادتهم، أو يحزن ويغتم.
قال أبو بكر بن عياش- رحمه الله- لابنه: يا بنيّ إياك أن تعصي الله في هذه الغرفة؛ فإني ختمت فيها اثني عشر ألف ختمة.
ومن وصايا لقمان الحكيم، لابنه: (… وإذا أردت أن تعصي الله؛ فاعصه في مكان لا يراك فيه) ([6]).
وذهب رجل إلى إبراهيم بن أدهم – رحمه الله-، وقال له: إني مسرف على نفسي، فأعرض على ما يكون زاجرًا لها.
فقال إبراهيم: إذا أردت أن تعصى الله؛ فلا تسكن بلاده، فتعجب الرجل؛ ثم قال: كيف تقول ذلك يا إبراهيم؟ والبلاد كلها ملك الله.
فقال له: إذا كنت تعلم ذلك؛ فهل يجدر بك أن تسكن بلاده وتعصيه؟
قال: لا([7]).
أما تخشى أن تشهدَ دارُك عليك؟
أما تخاف أن تشهد الأرضُ التي تسير عليها عليك؟
أعد الإجابة الآن، قبل أن تُفْضَح غداً على رؤوس الأشهاد؟
وكيف تعصي الله المنعم العظيم ﷻ بجوارحك، وهي نعمة من الله عليك، وأمانة لديك، فاستعانتك بنعمة الله المنعم العظيم على معصيته غاية الكفران، وخيانتك في أمانة استودعها الله غاية الطغيان؛ فأعضاؤك رعاياك، فانظر كيف ترعاها؛ فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته.
واعلم أن جميع أعضائك ستشهد عليك في عرصات القيامة بلسان طلق ذلق، تفضحك به على رؤوس الخلائق، قال الله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون}[النور:24].
فكل جارحة تشهد على العباد بما عملته، ينطقها الذي أنطق كل شيء، فلا يمكنه الإنكار، ولقد عدل في العباد، من جعل شهودهم من أنفسهم.
فاحفظ يا مسكين جميع بدنك من المعاصي، وخصوصا أعضاءك السبعة؛ فإن جهنم لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم بحسب أعمالهم، قال تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُوم} [الحجر:44].
ولا يتعين لتلك الأبواب إلا من عصا الله المنعم العظيم بهذه الاعضاء السبعة، وهي: العين، والأذن، واللسان، والبطن، والفرج، واليد، والرجل.
[1] هو : الجنيد بن مُحَمَّدِ بْنِ الجنيد أَبُو الْقَاسِمِ الخزاز، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :” الْجُنَيْد مِنْ شُيُوخِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ” .”مجموع الفتاوى” (5/ 126).
[2] السري بن المغلس السقطي: الإمام القدوة، شيخ الإسلام أبو الحسن البغدادي ، ولد في حدود الستين ومائة، توفي في شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائتين . وقيل : توفي سنة إحدى وخمسين . وقيل : سنة سبع وخمسين .(سير أعلام النبلاء، للذهبي، 12/ 186).
[3] الرسالة القشيرية: 1/ 313.
[4] صحيح البخاري، (438).
[5] سنن الترمذي، (2429)، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
[6] الخشوع في الصلاة، لابن رجب، ص35.
[7] موسوعة الأخلاق والزهد والرقائق، ياسر عبد الرحمن: 2/ 301.