الافتقار للرب الكريم دليل التعظيم
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- : سَارَ مُوسَى مِنْ مِصْرَ إِلَى مَدْيَنَ، لَيْسَ لَهُ طَعَامٌ إِلَّا الْبَقْلُ وَوَرَقُ الشَّجَرِ، وَكَانَ حَافِيًا، فَمَا وَصَلَ مَدْيَن؛ حَتَّى سَقَطَتْ نَعْلُ قَدَمِهِ، وَجَلَسَ فِي الظِّلِّ وَهُوَ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ، وَإِنَّ بَطْنَهُ لَاصِقٌ بِظَهْرِهِ مِنَ الْجُوعِ، وَإِنَّ خُضْرَةَ الْبَقْلِ لَتُرَى مِنْ دَاخِلِ جَوْفِهِ، وَإِنَّهُ لَمُحْتَاجٌ إِلَى شِقِّ تَمْرَةٍ([1])، قال تعالى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِير}[القصص:24].
والفقر الحقيقي: دوام الافتقار إلى الله في كل حال، وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة إلى الله تعالى من كل وجه” ([2]).
ويتحقق الفقر الحقيقي بأمرين متلازمين؛ هما:
الأول: إدراك عظمة الخالق وجبروته: فكلما كان العبد أعلم بالله تعالى وصفاته وأسمائه؛ كان أعظم افتقاراً إليه وتذللاً بين يديه.
الثاني: إدراك ضعف المخلوق وعجزه: فمن عرف قدر نفسه، وأنَّه مهما بلغ في الجاه والسلطان والمال؛ فهو عاجز ضعيف لا يملك لنفسه صرفاً ولا عدلاً؛ تصاغرت نفسه، وذهب كبرياؤه، وذلَّت جوارحه، وعظم افتقاره وتعظيمه لمولاه، والتجاؤه إليه، وتضرعه بين يديه.
تأمل إخبار العظيم سبحانه وتعالى بغناه عما سواه، وبافتقار المخلوقات كلها إليه، وتذللها بين يديه قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد}[فاطر:15]
أي: هم محتاجون إليه في جميع الحركات والسكنات، وهو الغني عنهم بالذات.
فالناس فقراء إلى الله من جميع الوجوه:
فقراء في إيجادهم، فلولا إيجاده إياهم، لم يوجدوا.
فقراء في إعدادهم بالقوى والأعضاء والجوارح، التي لولا إعداده إياهم بها ، لما استعدوا لأي عمل كان.
فقراء في إمدادهم بالأقوات والأرزاق والنعم الظاهرة والباطنة، فلولا فضله وإحسانه وتيسيره الأمور، لما حصل لهم من الرزق والنعم شيء.
فقراء في صرف النقم عنهم، ودفع المكاره، وإزالة الكروب والشدائد. فلولا دفعه عنهم، وتفريجه لكرباتهم، وإزالته لعسرهم، لاستمرت عليهم المكاره والشدائد.
فقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية، وأجناس التدبير.
فقراء إليه، في تألههم له، وحبهم له، وتعبدهم، وإخلاص العبادة له تعالى، فلو لم يوفقهم لذلك؛ لهلكوا، وفسدت أرواحهم، وقلوبهم وأحوالهم.
فقراء إليه، في تعليمهم ما لا يعلمون، وعملهم بما يصلحهم، فلولا تعليمه، لم يتعلموا، ولولا توفيقه، لم يصلحوا.
فهم فقراء بالذات إليه، بكل معنى، وبكل اعتبار، سواء شعروا ببعض أنواع الفقر أم لم يشعروا.
والموفق منهم المعظِّم لربه، لا يزال يشاهد فقره في كل حال من أمور دينه ودنياه، ويتضرع له، ويسأله أن لا يكله إلى نفسه طرفة عين، وأن يعينه على جميع أموره، ويستصحب هذا المعنى في كل وقت، فهذا أحرى بالإعانة التامة من ربه وإلهه، الذي هو أرحم به من الوالدة بولدها، وهو العظيم الذي له الغنى التام من جميع الوجوه، الحميد الذي قرن جوده بغناه، وهو يَحْمِد من يتوجه إليه.
فإن قلت لم عرَّف الفقراء في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ}[فاطر:15]؟
قلت: قصد بذلك أن يريهم أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء، وإن كانت الخلائق كلهم مفتقرين إليه من الناس وغيرهم؛ لأن الفقر مما يتبع الضعف، وكلما كان الفقير أضعف كان أفقر، وقد شهد الله سبحانه على الإنسان بالضعف في قوله: { وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا}[النساء:28].
وكلما اشتد ضعف الإنسان وافتقاره؛ احتاج لله العظيم في حاجته وبقائه.
وتأمل سؤال موسى عليه السلام ربه بحاله وفقره الشديد إلى ربه الغني العظيم، والسؤال بالحال أبلغ من السؤال بلسان المقال، {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِير}[القصص:24].
هل استشعرت هذه المناجاة؟
رب إني في الهاجرة، رب إني فقير، رب إني وحيد، رب إني ضعيف، رب إني إلى فضلك ومنك وكرمك فقير محووج.
فما أعظم من الافتقار إلى الله في كل الأحوال؛ ليغني عبده بإفاضة الخيرات.
وأحسن خير يفيض به العظيم على الغريب: وجود مأوى له يطعم فيه ويبيت، وزوجة يأنس إليها ويسكن، فكان استجابة الله لموسى عليه السلام بأن ألهم شعيباً أن يرسل وراءه؛ لينزله عنده، ويزوجه بنته.
ومن الخير الذي أفاضه الله جل جلاله على موسى عليه السلام:
فلما عظَّم موسى عليه السلام ربَه وأثنى عليه؛ أفاض الله عليه الخيرات والبركات.
وهكذا كل معظم لربه؛ ينل من خيراته وبركاته ما يبهره ربُه بعطائه.
فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا يلتذ، ولا يُسر، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن إلا بعبادة ربه العظيم، وحبه والافتقار إليه.
[1] تفسير ابن كثير، ت: سلامة: 6/ 227.
[2] مدارج السالكين، (2/ 440).