دلائل الخلق على الخالق سبحانه
عن أبي حنيفة – رضي الله عنه- أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى، فقال لهم: دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه، ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة- محملة – فيها أنواع من المتاجر، وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد.
فقالوا: هذا شيء لا يقوله عاقل؛ فقال: ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع؟! فبهت القوم، ورجعوا إلى الحق، وأسلموا على يديه([1]).
وعن الشافعي- رحمه الله-: أنه سئل عن وجود الصانع؛ فقال: هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله الدود؛ فيخرج منه الإبريسم- أحسن الحرير-، وتأكله النحل؛ فيخرج منه العسل، وتأكله الشاة والبعير والأنعام فتلقيه بعراً وروثاً، وتأكله الظباء؛ فيخرج منها المسك، وهو شيء واحد([2]).
فتأمل كيف برع الإمامان في تعظيم ربهم ببيان دلالة المخلوقات على عظمة خالقها.
فهـذا الخلقَ بكلِّ ما فيه شاهدٌ على وجودِ خالقه العليِّ القدير سبحانه؛ قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون. أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُون}[الطور:35-36].
فإذا لم يكونوا خُلِقُوا من غير خالق، ولا هم الخالقون لأنفسهم؛ تعين أن لهم خالقاً خلقهم.
ومعلوم بالفطرة التي فطر الله عليها عباده بصريح العقل أن الحادث لا يحدث إلا بمُحْدِث أحدثه، فالفطرة السليمة معظمة لخالقها.
أدرك هذه العظمة في دلالة المخلوقات على مبدعها جبير ابن مُطْعِمٍ عند سماعه لهذه الآية، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جبير ابن مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في المغرب بالطور، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ. أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ. أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ ([3]) .
وكان جبير بن مطعم إذ ذاك مشركاً، وكان سماعه هذه الآية من هذه السورة التي لامست قلبه وأزالت الغشاوة عنه من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك.
وأدرك ذلك بعض الأعراب لما سُئِلَ: ما الدليل على وجود الصانع؟ فقال: إن البعرة تدل على البعير، وآثار القدم تدل على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة، ومركز سفلي بهذه الكثافة، أما يدلان على الصانع الخبير؟([4]).
أدرك هذا الأعرابي بفطرته السليمة دلائل عظمة الله في آثار المخلوقات التي يراها صباح مساء.
وأدرك هذه العظمة في عصرنا العالم الباحث “لينيه” الفيزيولوجي الفرنسي، فقال: “إن الله الأزلي الكبير العالم بكل شيء، والمقتدر على كل شيء؛ قد تجلى لي ببدائع صنعه حتى صرت دهشا متحيرا، فأي قدرة وأي حكمة وأي إبداع أبدع من مصنوعات يده في أصغر الأشياء أو أكبرها. إن المنافع التي نستخدمها من هذه الكائنات تشهد بعظم رحمة الله الذي سخرها لنا، كما أن جمالها وتناسقها ينبئ بواسع حكمته، وكذلك حفظها عن التلاشي وتجددها يقر بجلال الله وعظمته” ([5]).
وصدق الشاعر لما قال:
فَيا عَجَباً كَيفَ يُعصى الإِلَهُ | أَم كَيفَ يَجحَدُهُ الجاحِــــــدُ |
وَفي كُلِّ شَيءٍ لَـــــهُ آيَةٌ | تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِــــــــــدُ |
وَلِلَّهِ في كُلِّ تَحــــــريكَةٍ | وتسكينه أَبَداً شاهِـــــــــــدُ |
إن المؤمن الفطن المعظم لربه الموقر له سليم العقيدة، مثقف الفكر، قادر على الاستدلال على وحدانية الله وقدرته وعظمته، مُفِّند للشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام.
[1] تفسير ابن كثير: 1/197.
[2] المرجع السابق: 1/197.
[3] صحيح البخاري: سورة والطور، برقم (4854).
[4] زاد المسير، لابن الجوزي: 1/266.
[5] دائرة معارف القرن العشرين، لمحمد فريد وجدي: 504.