ظهر الفساد في البر والبحر
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ – رحمه الله-{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سُورَةُ الرُّومِ: 41] ، قَالَ: الذُّنُوبُ.
وهذه الآية من جوامع كلم القرآن. والمقصد منها هو الموعظة بالحوادث ماضيها وحاضرها؛ للإقلاع عن الذنوب، والتوبة والإنابة إلى علاَّم الغيوب.
والمراد بالفساد: النقص والشر والآلام التي يحدثها الله في الأرض عند معاصي العباد، فكلما أحدثوا ذنبا؛ أحدث الله لهم عقوبة.
وفساد البر يكون بفقدان منافعه وحدوث مضاره، مثل حبس الأقوات من الزرع والثمار والكلأ، وفي موتان الحيوان المنتفع به، وفي انتقال الوحوش التي تصاد من جراء قحط الأرض إلى أرضين أخرى، وفي حدوث الجوائح من جراد وحشرات وأمراض.
وفساد البحر كذلك يظهر في تعطيل منافعه من قلة الحيتان واللؤلؤ والمرجان، فقد كانا من أعظم موارد بلاد العرب وكثرة الزوابع الحائلة عن الأسفار في البحر، ونضوب مياه الأنهار وانحباس فيضانها الذي به يستقي الناس.
فذكر البر والبحر؛ لتعميم الجهات بمعنى: ظهر الفساد في جميع الأقطار الواقعة في البر، والواقعة في الجزائر والشطوط.
فمن عصى الله العظيم في الأرض؛ فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة.
وأيضًا من مظاهر الفساد في البر والبحر: ارتفاع البركات، وحدوث فتن، وتغلب عدو كافر.
وهذا حالنا، وإنما أذاقنا الشيء اليسير من أعمالنا، ولو أذاقنا كل أعمالنا؛ لما ترك على ظهرها من دابة.
ونزِّل هذه الآية على أحوال العالم، وطابق بين الواقع وبينها، وأنت ترى كيف تحدث الآفات والعلل كل وقت في الثمار والزرع والحيوان، وكيف يحدث من تلك الآفات آفات أخر متلازمة، بعضها آخذ برقاب بعض، وكلما أحدث الناس ظلمًا وفجورًا؛ أحدث لهم ربهم العظيم تبارك وتعالى من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم، وأهويتهم ومياههم، وأبدانهم وخلقهم، وصورهم وأشكالهم وأخلاقهم من النقص والآفات، ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم.
وأكثر هذه الأمراض والآفات العامة بقية عذاب عُذِّبت به الأمم السالفة؛ لأنها لم تُعَظِّم خالقها وموجدها، ثم بقيت منها بقية مرصدة لمن بقيت عليه بقية من أعمالهم، حكمًا قسطًا، وقضاء عدلًا.
والحكمة من هذا {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}؛ أي: ليعلموا أنه سبحانه وتعالى، تعاظم شأنه المجازي على الأعمال؛ فعجل لهم نموذجًا من جزاء أعمالهم في الدنيا؛ لعلهم يرجعون عن أعمالهم التي أثرت لهم من الفساد ما أثرت؛ فتصلح أحوالهم ويستقيم أمرهم.
فالمقصود أن حلوله بالناس بقدرة الله العظيم كما دل عليه قوله: (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا)، وأن الله العظيم يقدر أسبابه تقديرًا خاصًا؛ ليجازي من يغضب عليهم على سوء أفعالهم.
فظهور الفساد واستعلاؤه لا يتم عبثًا، ولا يقع مصادفة؛ إنما هو تدبير اللّه العظيم وسنته في خلقه، والتي تعني ارتباط أحوال الحياة وأوضاعها بأعمال الناس وكسبهم، وأن فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد، ويملؤها برًا وبحرًا بهذا الفساد، ويجعله مسيطرًا على أقدارها، غالبًا عليها.
فسبحانه من رب عظيم جليل أنعم ببلائه، وتفضل بعقوبته؛ ليتوب عباده ويرجعوا إلى فعل الصالحات التي تأتي معها البركات، وإلا فلو أذاقهم جميع ما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة.