في المسند و صحيح أبي حاتم من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَا أَصَابَ عَبْدًا هَمٌّ وَلَا حُزْنٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلاَءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي. إِلَّا أَذْهَبَ اللهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا)). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أفَلا نَتَعَلَّمَهُنَّ؟ قَالَ: ((بَلَى، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ))([1]).
فتضمّن هذا الحديث العظيم أمورًا من المعرفة والتوحيد والعبوديّة، منها أنّ الدّاعي به صدّر سؤاله بقوله: ((إِنّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ))، وهذا يتناول من فوقه من آبائه وأمّهاته إلى أبويه آدم وحوّاء، وفي ذلك تملّق له واستخذاء بين يديه، واعترافه بأنّه مملوكه وآباؤه مماليكه، وأنّ العبد ليس له غير باب سيّده وفضله وإحسانه، وأنّ سيّده إن أهمله وتخلّى عنه هلك، ولم يؤوه أحد ولم يعطف عليه، بل يضيع أعظـــم ضيعة.
فتحت هذا الاعتراف:
أني لا غنى بي عنك طرفة عين، وليس لي من أعوذ به وألوذ به غير سيّدي الذي أنا عبده، وفي ضمن ذلك الاعتراف بأنه مربوب مدبّر مأمور منهي، إنّما يتصرّف بحكم العبوديّة لا بحكم الاختيار لنفسه، فليس هذا في شأن العبد بل شأن الملوك والأحرار، و أمّا العبيد فتصرّفهم على محض العبوديّة، فهؤلاء عبيد الطّاعة المضافون إليه سبحانه في قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، وقولـــه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْناً} [الفرقان: 63]، ومن عداهم عبيد القهر والربوبية، فإضافتهم إليه كإضافة سائر البيوت إلى ملكه، وإضافة أولئك كإضافة البيت الحرام إليه، وإضافة ناقته إليه، وداره التي هي الجنّة إليه، وإضافة عبودية رسوله إليه بقوله: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا} [البقرة: 23]، وقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1]، وقوله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19].
وفي التّحقيق بمعنى قوله: ((إني عبدك))، التزامُ عبوديته من الذلّ والخضوع والإنابة، وامتثال أمر سيّده، واجتناب نهيه، ودوام الافتقار إليه، واللّجوء إليه، والاستعانة به، والتوكّل عليه، وعياذ العبد به، ولياذه به ـ ألّا يتعلّق قلبه بغيره محبّةً وخوفًا ورجاءً.
وفيه أيضًا أنّي عبد من جميع الوجوه: صغيرًا وكبيرًا، حيًّا وميّتًا، مطيعًا وعاصيًا، معـــافىً ومبتلىً، بالرّوح والقلب واللّسان والجوارح.
وفيه أيضًا أنّ مالي ونفسي ملكٌ لك، فإنّ العبد وما يملك لسيّده.
وفيه أيضًا أنّك أنت الذي مننت عليّ بكلّ ما أنا فيه من نعمة، فذلك كلّه من إنعـــامك على عبدك.
وفيه أيضًا أنّي لا أتصرّف فيما خوّلتني من مالي ونفسي إلّا بأمرك، كما لا يتصرّف العبد إلّا بإذن سيّده، وأنّي لا أملك لنفسي ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، فإن صحّ له شهود ذلك فقد قال: إنّي عبدك حقيقة.
————————————