خطبة وهو العلي العظيم
الشيخ/ عبد الله محمد الطوالة
عناصر الخطبة:
الخطبة الأولى:
الحمد لله أبداً سرمدا، وتبارك الله فردا صمدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا.
الحمد لله تلألأت بأجل المحامد آلاؤه، وتقدست أسماؤه وصفاته.
الحمد الله أهل العظمة والكبرياء.
الحمد لله تفرد بالبقاء، وجل عن النظراء والشركاء، وأبدع كل شيء كما يشاء.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
إليه وإلا لا تشد الركائب *** ومنه وألا فالمؤمل خائب
وفيه وإلا فالكلام مضيع *** وعنه وإلا فالمحدث كاذب
لديه وإلا لا لقرار لساكن *** عليه وإلا لا اعتماد لطالب
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله السراج المنير، والبشير النذير أعظم رجل عظّم الله، وقدّس الله، وأجلّ الله، اللهم صل وسلم.
أمّا بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فاتقوا الله رحمكم الله، فمن أصلح سريرته أصلح الله له علانيتَه، ومن عمل لدينه يسَّر الله له أمرَ دنياه، ومن أحسَن فيما بينَه وبين الله أحسَن الله ما بينَه وبين الناسِ، ومن عرَف الدنيا هانت عليه مصائبها وما فاته منها.
فاتقِ الله -يا عبد الله- حيثما كنت، واحفَظِ الله يحفظك، وأتبِع السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالق الناسَ بخلقٍ حسن.
واعتبروا -رحمكم الله- بالسابقين، وتفكّروا وتذكروا فالقلوب بالذِّكرى تلين: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[هود: 114-115].
عباد الله: نحن في زمن كَثُرتْ فيه الأشغالُ، وتغيَّرتْ فيه الأحوالُ، وانبهرَ الناسُ بما صنعوا من معدات، وما وصلوا إليه من اكتشافاتِ، ونسوا عبادةً من أعظمِ وأجل العباداتِ، ألا، وهي: التَفكرُ فيما أبدعَ اللهُ -تعالى- من مخلوقاتٍ، فنقصَ لذلك في قلوبهم؛ تعظيمُ فاطر الأرض والسموات.
ثم إنّ هذا الجيلَ الذي صدّه الاستكبار، وعلاه الغرور، وأسكَرَه التّرف، وشغل بالتوافه، وتنكب الطريق؛ بأمس الحاجةٍ لأن يعرف ربّه حقًّا، ويعظمه صدقًا، بأمس الحاجة إلى تدبّر أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، والتأمّلِ في آياته وآلائه، والتفكّر في إعجازه، فمن أشهِد قلبُه عظمةَ الله وكبرياءَه علِم عظم شأنَ تحذيره جل وعلا في قوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ)[آل عمران: 28].
ومن استيقَن قلبه عظمة الله؛ فلن يرهَب غيرَ الله، ولن يتعلق بغير الله، ولن يرجو غيرَ الله، ولن يتحاكم إلاّ لله، ولن يذلّ إلا للِه.
يا عباد الله: إن في القلب شعثاً لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشةٌ لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزنٌ لا يذهبه إلا معية الله، وفيه قلقٌ لا يطمئنه إلا ذكر الله، وفيه خوفٌ لا يسكنه إلا الفرار إلى الله، وفيه حسراتٌ لا يطفئها إلا الرضى بقضاء الله وقدره، وفيه فاقةٌ لا يسدها إلا محبة الله وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تُسدَ تلك الفاقة منه أبداً.
فليتـك تحلو والحيـاة مريرة *** وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينـك عامر *** وبيني وبين العالمين خـراب
إذا صح منك الودُ فالكل هينٌ *** وكل الذي فوق التراب تراب
عباد الله: فرق كبير بين الإيمان بالله، وبين الإيمان بعظمة الله: (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ)[الحاقة: 33].
الإيمان بالله مبني على تعظيم الله -جل وعلا-، فهذه السماوات العظيمة، قال الله عنها فاطرها: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) [مريم: 90].
قال المفسرون: “يتشقّقن مِن عظمةِ الله -عز وجل-“.
وقال عن الجبال الصم: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [الحشر: 21].
ومنزلةُ التعظيم؛ تابعة للمعرفة، فعلى قدرِ المعرفة يكون تعظيمُ الربّ -تعالى- في القلب، وأعرف النّاس بربه أشدُّهم له تعظيمًا وإجلالاً.
وفي المقابل؛ فقد ذمّ الله -تعالى- مَن لم يعظِّمه حقَّ تعظيمه، ولا عرَفه حقَّ معرفته، فقال: (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) [نوح: 13].
قال المفسرون: “ما لكم لا تعظِّمون الله حقَّ عظمته”..
تأمّل -يا رعاك الله-: في آياتِ الله واربط بينها، آياتٌ تقرآها في كتابٍ مسطور، وآياتٌ تشاهدها في الكون المنظور؛ لتجدُ أمامَك نافذة واسعةً سعةَ الكون كلِّه، آيات كريمة مبهرة، قد كتِبت بحروفٍ كبيرة واضحة؛ تقرأ بكل لغة، وتفهم بلا جهد، فقط أعمل حواسك وعقل ليمتلئَ قلبك إجلالاً وعظمة للعلي الكبير -سبحانه-: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [ص: 29].
وقال تعالى: (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ) [يونس: 101].
قال أبو معاذ الرازي: “لو تكلمت الأحجار، ونطقت الأشجار، وخطبت الأطيار، لقالت: “لا إله إلا الله الملك القهار”.
فسبحان من سبحت له السموات وأملاكها، والنجوم وأفلاكها، والأرض وسكانها، والبحار وحيتانها، والأشجار وثمارها: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [الإسراء: 44].
سبحان من أتته السماء والأرض طائعة، وتطامنت الجبال لعظمته خاشعة، وهملت العيون لذكره دامعة: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) [النــور: 41].
سبحان من أحاط علماً بالكائنات، المطّلع على خفي النيات، العالمٌ بنهايات الأمور: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر: 19].
(بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يــس: 83].
(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى: 11].
سبحانه وبحمده جلّ شأنه، الورقة لا تسقط إلا بعلمه، والقطرة لا تنزل إلا بعلمه، والحبة لا تنبت إلا بعلمه: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [الأنعام: 59].
سبحانه وبحمده جلّ شأنه، لا يكتب حرفٌ إلا بعلمه، ولا تقال كلمة إلا بعلمه، ولا تطلق نظرةٌ إلا بعلمه، ولا تُسكب دمعة إلا بعلمه، ولا تعقد نية إلا بعلمه: (وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى)[طـه: 7].
كم تنطوي الضمائر على أفكار وخواطر، لا يعلمها ملك مقرّب ولا نبي مرسل ولا شيطان مارد، ويعلمها علاّم الغيوب: (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى)[طـه: 7].
تتستّر الصدور بأسرار ونوايا، لا ينفذ إليها سمع، ولا يصل إليها بصر، ويطّلع عليها الحكيم العليم: (سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ) [الرعد: 10].
يُلفّ الجنين بغشاء إثر غشاء في ظلمات ثلاث، فلا يُدرى أشقي أم سعيد، أغني أم فقير، كم سيحيى ومتى سيموت، لكن الذي أحاط بكل شيء علمًا يعلم كل ذلك وأكثر: (اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ)[الرعد: 8-9].
وقال تعالى: (عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [سبأ: 3].
والله لو أن أشجار الدنيا كلها من حين وجدت إلى أن تنقضي بُريت كلها أقلاماً، وبحار الدنيا ومن وراءها سبعة أبحر تمدها بالمداد، وقامت الخلائق كلها بتلك الأقلام يكتبون، لفنيت الأقلام ونفد المداد ولم تنفد كلمات الخالق -تبارك وتعالى-: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [لقمان: 26-27].
هو الأول فليس قبله شيء، والآخر فليس بعده شيء، والظاهر فليس فوقه شيء، والباطن فليس دونه شيء، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، يُعز من يشاء ويذل من يشاء، كل شيء هالك إلا وجهه، كل ملكٍ زائلٌ إلا ملكه.
لن يطاع إلا بإذنه ورحمته، ولن يعصى إلا بعلمه وحكمته، يطاع فيشكر، ويعصى فيتجاوز ويغفر، كل نقمة منه عدل وكل نعمة منه فضل، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حال دون النفوس وأخذ بالنواصي، وسجل الآثار وكتب الآجال، فالقلوب له مفضية، عطاؤه كلام، وعذابه كلام، و (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يــس: 82].
أحق من ذُكر وعبد وحمد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأكرم من قصد.
خالق كل شيء، ورَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وله كل شيء، أتقن كل شيء، أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، بيده ملكوت كل شيء، أَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عددا، وأَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ علما، وأَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَا، ووسع كل شيء رحمة وعلما، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، على كل شيء قدير، وعلى كل شيء مقتدر، وهو بكل شيء عليم، وعَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا، وبِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ، وعَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا، وعَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتا، وبِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا، وعلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ، وعَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا، وعَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ، وكُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى: 11].
يا مدرك الأبصار والأبصار لا *** تدري له ولكنهه إدراكا
إن لم تكن عيني تراك فإنني *** في كل شيء أستبين علاكا
يا منبت الأزهار عاطرة الشذا *** هذا الشذا الفواح نفحُ شذاكا
والله في كل العجائب مبدع *** إن لم تكن لتراه فهو يراكا
يا أيها الإنسان مهلاً ما الذي *** بالله جل جلاله أغراكا؟
فاسجد لمولاك القدير فإنما *** لابد يوماً تنتهي دنياكا
وتكون في يوم القيامة ماثلاً *** تُجزى بما قد قدمته يداكا
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفَى، وسلام على عبادِه الذين اصطفى.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم، الذي من تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً، ومن تقرب إليه ذراعاً تقرب إليه باعاً، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة، فالباب مفتوح ولكن من يلج؟ والمجال مفسوح ولكن من يُقبل؟ والحبل ممدود ولكن من يتشبث به؟ والخير مبذول ولكن من يتعرض له؟ أين الباحثون عن الأرباح؟ أين خطّاب الملاح؟ أين عشّاق العرائس؟ وطلاّب النفائس؟!
من أقبل إليه، تلقاه من بعيد، ومن أعرض عنه، ناداه من قريب، ومن ترك من أجله شيئاً أعطاه فوق المزيد، ومن أراد رضاه، أراد ما يريد، ومن تصرف بحوله وقوته، ألان له الحديد، أهل ذكره هم أهل مجالسته، وأهل شكره هم أهل زيادته، وأهل طاعته هم أهل كرامته، وأهل معصيته لا يقنطهم من رحمته، إن تابوا إليه فهو حبيبهم، وإن لم يتوبوا فهو طبيبهم، يبتليهم بالمصائب ليطهرهم من المعايب، الحسنة عنده بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، والسيئة عنده بواحدة، فإن ندم عليها واستغفر، غفرها له وأبدلها حسنة، يشكر اليسير من العمل، ويغفر الكثير من الزلل.
فيا راكضاً في ميادين الهوى مرحاً *** ورافلاً في ثياب الغيّ نشوانا
مضى الزمان وولى العمر في لعبٍ *** يكفيك ما قد مضى يكفيك ما كانا
ألا إنّ امتلاءَ القلب بعظمة الله -يا عباد الله-: يولّد ثقةً مطلقة بالله، ويجعل المسلمَ هاديَ البالِ ساكنَ النفس مهما ادلهمّت الخطوب.
إنّ استشعارَ عظمة الله؛ تملأ القلب رضًا وصبرًا جميلاً، فلا يحزنُنا تقلّب الذين كفروا في البلاد، فإنهم مهما علوا ومكروا وتجبّروا فلن يصِلوا إلى مطامعهم: (وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ)[البروج: 20].
إنّ معرفتَنا بعظمةِ الله؛ تورث القلبَ الشعورَ الحيّ بمعيّته سبحانه، تلك المعية التي تُفيض السكينةَ في المحن والبَصيرة في الفتن، فعندما لجأ رسولنا الكريم إلى الغار، واقترب الأعداء شاهرين سيوفَهم، باذلين كل ما في وسعهم، حتى قال أبو بكر -رضي الله عنه-: يا رسول الله، لو أنّ أحدَهم نظر لموضع قدَمه لرآنا، فردّ عليه الواثق بربه: “ما ظنّك باثنين الله ثالثهما؟! لا تحزن إن الله معنا”.
ومن قبل بلغ فرعون من الطغيان ما بلغ: (عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)[القصص: 4].
وبلغ من الطغيان حتى قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)[النازعات: 24]!.
وحين وقف موسى ومن معه عند شاطئ البَحر: (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)[سورة: 61].
فيردّ الكليم -عليه السلام- باستشعارٍ لعظمة الله وثِقة كاملةٍ بموعود الله: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الشعراء: 62].
فماذا كانت نتيجة الطغيان؟! (وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) [الشعراء: 65-66].
النتيجة: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ)[الأعراف: 137].
إنّ استشعارَ عظمةِ الله ومعيّته؛ تبعَث في النفس معنى الثبات والعزّة، وتقوّي العزائم حتى في أشدّ حالات الضّنك، وقد كانت هذه الحقائق جليّة عند الصحابة حتى مع حصار الأعداء الاقتصاديّ والاجتماعيّ في شِعب أبي طالب، وكذلك في بدر والخندق حين حزبوا الأحزاب، وتكالبت الذئاب، وبلغت القلوب الحناجر.
ولم تمضِ سِوى أعوام قليلة؛ حتى فتَح الله على أبي بكر وعمر وغيرهم؛ أعظمَ الانتصارات، وسقطت على أيديهم أعظم الأمبروطورات.
فاتقوا -عباد الله-: وراقبوه، فمراقبة الله وتعظيمه؛ صمّام أمان في النفوس، ووازع خيرٍ، ومانع شرٍ.
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم