خطبة (تعظيم الله في آية الكرسي)
الخطبة الأولى:
الحمد لله العلي العظيم ،{غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو العزيز الحكيم}، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً*** يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
ثبت في صحيح الإمام مسلم عن أُبَي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((يا أبا المنذر، أتدري أيّ آيةٍ من كتاب الله معك أعظم؟))، قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((يا أبا المنذر، أتدري أيّ آية من كتاب الله معك أعظم؟))، قال: قلت: {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، قال: فضرَب في صدري، وقال: ((والله ليَهْنِك العلم أبا المنذر)).
قال شيخ الإسلام ــــ رحمه الله ـــ : وليس في القرآن آيةٌ واحدةٌ تضمنت ما تضمنته آية الكرسي.
لذلك فقد كانت هذه الآية هي أعظم آيةٍ في كتاب الله لما تضمنته من التوحيد والتمجيد لله جل جلاله
أيها المؤمنون: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير ما حديثٍ أمره بقراءة آية الكرسي في عدد من المواضع، فمن ذلك:
1ـــ أدبار الصلوات: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {مَن قرأَ آيةَ الكُرسيِّ في دبُرِ كلِّ صلاةٍ مَكْتوبةٍ لم يمنَعهُ مِن دخولِ الجنَّةِ إلَّا أن يموتَ}.
2ـــ وكذلك تُستحب قراءتها عند النوم، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((من قرأ آيةَ الكرسيِّ في ليلةٍ لم يزَلْ عليه من اللهِ حافظٌ ولا يقربُه شيطانٌ حتى يُصبحَ)).
وغيرها من المواطن التي تُقرأ فيها هذه الآية العظيمة.
ولسائلٍ أن يسأل ما سر هذه الآية، وكيف كانت هي أعظم آيةٍ في كتاب الله سبحانه؟
والجواب: أن هذه الآية الكريمة اشتملت واختصت بالحديث عن العلي العظيم، الجليل الكبير، العزيز القدير سبحانه، فابتدأت باسم (الله)، ذو الجلال والبهاء، والجمال والكمال، (الله) المألوه المعبود، كل النفوس تألهه وتحبه، وكل القلوب تعظمه وتجله.
اللهُ يَا أَعْذَبَ الأَلْفَاظِ فِي لُغَتِي وَيَا أَجَـلَّ حُرُوفٍ فِي مَعَانِيهَا
اللهُ يَا أَمْتَعَ الْأَسْمَاءِ كَمْ سَعِدَتْ نَفْسِي وَفَاضَ سُرُورِي حِينَ أَرْوِيهَا
اللهُ أُنْسِي وَبُسْتَــانِي وَقَافِيَتِي اللهُ يَا زِينَـةَ الدُّنْيَـا وَمَا فِيهَا
ثم أعقب ذلك باسمين جليلين عظيمين له سبحانه: (الحي)،(القيوم)، فالله سبحانه هو الحي، كامل الحياة، فلم يسبق حياته عدم، ولا يلحقها فناء، فمن قوة الحي يستمد كل حيٍ حياته، (وأنه هو أمات وأحيا).
فما دامت الحياة منه سبحانه وهو واهبها فعلى ما الخوف والقلق، بل حريٌ بالمؤمن أن ينطلق في حياته واثقاً بربه الواهب للحياة، ثم يسخر حياته لإرضاء من وهبه إياها، فلا زلل ولا شطط.
أما (القيوم)، فهو القائم بذاته، المقيم لغيره، قائمٌ بذاته فليس يحتاج أحداً من خلقه، ومقيمٌ لغيره، وإقامته لغيره سبحانه في كل شيء، فهو مقيمهم في حياتهم، وأرزاقهم، وعافيتهم، وآجالهم، فكل ما عندك فهو من القيوم سبحانه.
وذلك والله يستدعي أن تعرف مقامك منه، هل أنت مقيمٌ على الخير، أم مقيم على الشر والباطل والذنوب والمعاصي، فمقامك اليوم هو مقامك عنده غداً.
ثم قال سبحانه: {لا تأخذه سنةٌ ولا نوم}، إن من جلال الله وعظمته، انه سبحانه لا تأخذه سنة وهي النعاس الذي يسبق النوم، ولا نوم، و ما ذاك إلا لكمال حياته وقيوميته، فأني يكون كامل الحياة من ينعس ويغفو وينام، فذلك عجز نزه الله نفيه الكريمة عنه، ونزهه رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : {إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام}، كيف ينام من {يمسك السماوات والأرض أن تزولا}، كيف ينام من أرواح الخلق بيده، كيف ينام من به يقوم كل سبحانه … لا إله إلا أنت سبحانك ما أعظمك .. سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، ولا قدرناك حق قدرك.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الولي المبين والصلاة والسلام على رسوله الأمين، أما بعد:
عباد الله:
ثم يقول الله سبحانه في هذه الآية الشريفة: {له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} والله لو أيقنت قلوبنا بما في هذه الآية، واستشعرت كمال ملك الله لجميع ما في السماوات والأرض ما ذلت لغيره، ولا استكانت لسواه.. يا عبدالله كيف تطلب الدنيا ممن لا يملكها، وتغفل عن من يملكها، إنه الله، الذي له ما في السماوات والأرض، فليس يخرج شيءٌ عن سلطانه، ولا يند شيءٌ عن ملكه، ولملكه التام فلن يشفع أحدٌ عنده إلا بإذنه، فليست الشفاعة لأحدٍ إلا لمن أذن من خلقه وارتضى.
{يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيءٍ من علمه إلا بما شاء}، إن من جلال الله وكمال عظمته، علمه الشامل بكل ما في الكون، فلا يحدث شيءٌ إلا بعلمه، ولا يحصل أمرٌ إلا باطلاعه وإرادته.
ومن دقيق علمه أن علم ما سلف من أحوال الأمم وكان، وما سيحدث في قابل الأزمان، بل إنه سبحانه يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون.
فهـو العـلـيـم بمـا يـكـون غــــــــــدًا ومــــــا *** قــد كـان والـمـعـلـــــوم فـي ذا الآن
وبكـل شـيءٍ لـم يكـن لـو كـان كيـف *** يـكــون مــوجـــودًا لــذي الأعـيـــان
ولا يعلم الخلق من ذاته ولا من صافته وأفعاله إلا ما شاء أن يعلمهم، بل لا يعلمون شيئاً في هذه الحياة الدنيا ولا في الآخرة إلا ما شاء عليه أن يطلعهم.
{وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم}
الكرسي موضع القدمين، وسع السماوات والأرض، يا الله ما أعظم هذا الخلق، فإذا كان هذا كرسيه وموضع قدميه فكيف بالرب الجليل سبحانه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((ما السَّماوات السّبع في الكُرسيِّ إلَّا كحلقةٍ ملقاةٍ بأرضٍ فلاةٍ ، وفضلُ العرشِ على الكُرسيِّ كفضلِ تلك الفلاةِ على تلك الحلقةِ)).
والله سبحانه {لا يئوده} أي لا يعجزه ولا يثقله حفظ السماوات والأرض، فهو وحده الحافظ لهما، ويمسكهما أن تزولا، ولو شاء بقوته لخسف بهما ومن فيهما، ولكنه الحفيظ الذي حفظ خلقه، وأمَّن لهم حياتهم ومعاشهم إلى أن يشاء الله.
ثم ختم سبحانه هذه الآية باسمين جليلين وهما {العلي العظيم}، العلي: الذي له العلو المطلق، علو الذات، وعلو القد والصفات، وعلو القهر، فهو العلي الأعلى، وكل مخلوقٍ ــ مهما علا شأنه ـــ فهو دونه، وهو سبحانه (العظيم)، له كل العظمة، وآثار عظمته نراها كل يوم في أنفسنا، وما حولنا.
إخوة الإيمان: إن هذه الآية الكريمة تدعونا إلى مزيدٍ من التأمل، تدعونا إلى الخوف والوجل من الله ذي الصفات العليِّة، والأفعال الجميلة البهيِّة.
فاللهم املأ قلوبنا بمحبتك وتعظيمك، واشرح صدورنا لنورك، واهدِ نفوسنا لدينك وشرعك.
وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير حيث أمركم بذلك العليم الخبير؛ فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].