مرحباً بكم فى مشروع تعظيم الله

خطبة لفضيلة الشيخ/عبد المحسن القاسم (خطيب المسجد النبوي)

خطبة الدعاء دليل العبودية

بسم الله الرحمن الرحيم

الدعاء دليل العبودية

فضيلة الشيخ عبد المحسن القاسم (خطيب المسجد النبوي)

الخطبة الأولى

إنَّ الحمدَ للَّه، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللَّهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللَّهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ نبيَّنا مُحمَّداً عبدُه ورسولُه، صلَّى اللَّه عليه وعلى آلِه وأصحابِه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أمَّا بعدُ:

فاتَّقوا اللَّه – عبادَ اللَّه – حقَّ التَّقوى، وراقبوه في السِّرِّ والنَّجوى.

أيُّها المسلمون:

دينُ اللَّهِ الذي ارتضاه للخَلِيقَةِ كلِّها – أوَّلِها وآخرِها – هو الإسلامُ، جاء به النبِيُّون جميعاً، وحَمَلَ لواءَه الرُّسُلُ كلُّهم، قال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾، وهو إخلاصُ الوجهِ للَّهِ وحدَه، والتَّسليمُ له ربّاً مالكاً مُتَصرِّفاً وإلهاً معبوداً وحدَه دون سِواه، وهو الحَنِيفِيَّةُ مِلَّةُ أبِينا إبراهيمَ عليه السَّلام، ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾، وهو عقيدةٌ وشريعةٌ، وعِلمٌ وعَملٌ، وظاهرٌ يُصَدِّقُ الباطنُ.

و«لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» أساسُه وأصلُه، وقُبَّة بنيانِه التي بها كمالُه وجمالُه، وأوَّلُه وآخِرُه، وسَبَبُه وغايتُه، ومعناها من لفظِها بمنزلة الرُّوح من الجسد؛ لا يُنتَفع بالجسدِ دُونَ الرُّوحِ، والتَّلفُّظُ بها دون اعتقادِ معناها لا يُغنِي عن صاحبِها شيئاً، ومَن قالها عالماً بمعناها، عاملاً بمقتضاها، مستوفياً حقوقَها؛ فقد حَقَّق التَّوحيد.

وأصدقُ برهانٍ من العبدِ على التَّوحيدِ، وأدلُّ دليلٍ على اختصاصِ الخالقِ بالتَّفريدِ: دعاءُ اللَّهِ وحدَه دون سِواهُ، قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ» (رواه الترمذي).

ودينُ اللَّه لا يَقوم إلَّا على إفرادِ اللَّهِ بالدُّعاءِ دون ما سِواه، وبهذا أَرسلَ رُسَلَه وأَنزلَ كُتُبَه، وهو دينُه الذي يُحِبُّ من عبادِه إظهارَه ولو كان في ذلك مُرَاغَمةٌ للمعرِضين عنه، ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ﴾، وأَمرَ اللَّهُ نبيَّه عليه الصَّلاة والسَّلام أن يُعْلِنَ لقومِه أنَّ رسالتَه قائمةٌ على توحيد اللَّهِ في الدُّعاءِ: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً﴾، ومَن استكبرَ عن دعائِه تَوَعَّده اللَّهُ بالنَّارِ والصَّغارِ، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾، ومَن كَرِهَتْ نفسُه دعاءَ اللَّهِ وحدَه، ولم تَنْشَرِحْ إلَّا بدعاءِ المخلوقين؛ فذلك علامةُ الضَّلالِ والغَفْلَةِ عن الآخرةِ، قال سبحانه: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ﴾.

وما مِن مَقامٍ إيمانيٍّ افترضَه اللَّهُ على القلوبِ إلَّا والدعاءُ مُستلزِمٌ له، والعباداتُ الظاهرةُ والباطنةُ كلُّها دعاءٌ في مآلِها ومعناها؛ فمَن صلَّى أو صام أو حجَّ أو تَصدَّق فهو داعٍ لرَبِّه بلسانِ الحالِ، تُنَادي عليه عبادتُه لرَبِّه وذُلُّه له ومَحَبَّتُه إيَّاه بأنَّه سائلٌ من ربِّه القَبول، طالبٌ إليه القُرْبَ والزُّلْفَى؛ فالدُّعاءُ هو العبادةُ ومُخُّها ولُبُّها وحقيقتُها، قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «إِنَّ ‌الدُّعَاءَ ‌هُوَ ‌العِبَادَةُ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾» (رواه أحمد).

ولِعِظَمِ أمرِ الدُّعاءِ وكبيرِ منزلتِه افتتحَ اللَّهُ كتابَه بالدُّعاءِ، ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ﴾، وخَتَمَه بالمُعَوِّذَتَيْنِ اللَّتَيْن فيهما الدُّعاءُ، وسمَّى اللَّهُ الدعاءَ باسم الدِّينِ فقال: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين﴾، وسمَّاه باسم العبادةِ كلِّها فقال: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾.

والإخلاصُ للَّه وحدَه في الدُّعاءِ؛ علامةُ الإيمانِ وبُرهانُ الإِيقَانِ وحَبْلُ النَّجاةِ ووسيلةُ الفوزِ والنَّجاحِ، وهو شِعارُ الأنبياءِ والمؤمنين، فالدَّاعي المُوَحِّدُ لربِّه في دعائِه هو العابدُ الصَّادقُ والعارفُ المُصِيبُ طريقَ أشرفِ الحقائقِ؛ إذِ الدُّعاءُ هو الرُّكنُ الشَّديدُ الذي يَأْوِي إليه المسلمون والمَلَاذُ الآمنُ الذي يَعْتَصمُ به المحتاجون.

والمصائبُ والشَّدائدُ تُعَرِّفُ العبدَ بربِّه، وتأخذُ بيده إلى الإخلاصِ في دعائِه، ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً﴾.

وربُّنا سبحانه يُدْعَى وحدَه في كلِّ حينٍ وحالٍ؛ فهو الخالقُ الذي لا يَعْجِز عن شيءٍ، والقادرُ القاهرُ الذي عَلَا كلَّ شيءٍ، الرِّزقُ بيدِه، والعطاءُ والمنعُ منه وإليه، وصفاتُ الكَمالِ والجَمالِ والجَلالِ نُعوتُ صدقٍ لا تَنْفَكُّ عنه، ومَن تَوَسَّل إليه بأسمائِه وصفاتِه أعطاه مبتغاه، ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا﴾.

ربُّنا هو القريبُ من سائلِيه وعابدِيه، مَن أَنزلَ به منهم حاجتَه قضاها له، ومَن سألَه أعطاهُ، ومَن افتقرَ إليه أغناهُ، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾.

هو الحيُّ القَيُّوم؛ مَن دعاه توجَّه إلى ربٍّ واحد صَمَدٍ قادرٍ على تفريجِ الكُرُوبِ، ﴿هُوَ الحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾.

وتفرُّدُه باستحقاقِ الدُّعاءِ دون سِواه برهانٌ على أنَّه الحقُّ وحدَه، وأنَّ دعوةَ غيرِه لا تُستجابُ، قال جَلَّ شأنُه: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ﴾.

عطاؤه يُذهِلُ العقولَ، وكَرَمُه عَجَبٌ عُجابٌ؛ يُجَازِي على الحسنةِ اليسيرةِ بالخيراتِ الكثيرةِ، ومَن أثنى عليه وأحسنَ مسألتَه قَابَلَه بجزيلِ النَّوالِ، ويَتَجَاوزُ عن الذُّنوبِ العظامِ لمَن صحَّ دينُه وتوحيدُه ولم يُشرِكْ معه غيرَه، قال سبحانه في الحديثِ القُدُسِيِّ: «مَنْ لَقِيَنِي ‌بِقُرَابِ ‌الأَرْضِ خَطِيئَةً – أَيْ: ذُنُوبُهُ مَلَأَتِ الأَرْضَ أَوْ قَارَبَت مِلْأَهَا – لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئاً لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً» (رواه مسلم).

وأحبُّ الخَلْقِ إلى اللَّهِ أكثرُهم سُؤالاً وإلحاحاً، وكلَّما ازدادَ إيمانُ العبدِ وفَهْمُه لدينِه وتَعَلُّقُه بربِّه؛ ازدادَ حِرْصُه على الدُّعاءِ في جميعِ أحوالِه، قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «‌لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا؛ حَتَّى يَسْأَلَ ‌شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ – وَهُوَ أَحَدُ سُيُورِ النَّعْلِ -» (رواه الترمذي)، قال شيخُ الإسلام رحمه الله: «وَمَا زَالَ الأَنْبِيَاءُ وَأَتْبَاعُهُمْ يَسْأَلُونَ اللَّهَ مَصَالِحَ دِيْنِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ، فَمَنْ هُوَ الَّذِي اسْتَغْنَى عَنْ سُؤَالِ اللَّهِ تَعَالَى؟! ثُمَّ خَاصِّيَّةُ العَبْدِ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ، وَخَاصِّيَّةُ الرَّبِّ أَنْ يُجِيبَهُ، فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَسْتَغْنِي عَنْ سُؤَالِهِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ رِبْقَةِ العُبُودِيَّةِ – أَيْ: فَارَقَهَا -».

وأنبياءُ اللَّهِ شَأْنُهم كَثْرَةُ الدُّعاءِ على اختلافِ الأحوالِ، ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾.

تَعَلَّق قلبُ زكريا عليه السَّلام بالولدِ، فسألَ ربَّه الذُّرِيَّةَ الطيبةَ وأثنى على ربِّه فقال: ﴿إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾، ثم قام إلى مِحرابِه فإذا الملائكةُ تُبَشِّرُه بنبيٍّ مِن صُلْبِه، على كِبَر سِنِّه ووَهَنِ عَظْمِه.

ووَاجَه قومُ نوحٍ نبيَّهم بالعِصيانِ والتَّكذيبِ، ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾، فأغرقَ اللَّهُ مَن على الأرضِ في طُوفان عظيمٍ سِوى مَنِ اتَّبَعَه من المؤمنين.

وقَصَّ اللَّهُ خَبَرَ أصحابِ الكهفِ أنَّهم فِتْيَة موحِّدون، عَلِموا أنَّ دعاءَ اللَّهِ وحدَه هو الدِّينُ الذي لا يَقْبَل اللَّهُ غيرَه، فقاموا في قومِهم وقالوا: ﴿رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً﴾.

وَوِرْد المؤمنين: الدُّعاءُ طَرَفَيِ النَّهارِ والأَسْحارِ، ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾.

ومجالسةُ مَن يُكثِرُ دعاءَ ربِّه وهو مُخْلِصٌ له في عملِه مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ به نبيَّه، ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾.

نَفْعُ الدُّعاءِ عظيمٌ، وخيرُه عَمِيمٌ، يَنْتَفِع به الأحياءُ والأمواتُ، ويَنالُ بركتَه الدَّاعِي والمدعوُّ له.

وهو سَبَبٌ مُؤَثِّرٌ كسائرِ الأسبابِ؛ يدعو العبدُ ربَّه بقَدَر اللَّهِ، ويُستجابُ له بِمَشِيئة اللَّهِ، فالدُّعاءُ يَرُدُّ البلاءَ إن سَبَقَ في عِلْمِ اللَّهِ ذلك، ويَجْلبُ الخيرَ ويُنَجِّي بإذن اللَّهِ من المهالكِ.

فالأمرُ مِن اللَّه وإليه، لا سبيلَ لأحدٍ من الخلقِ عليه.

ودعاءُ اللَّهِ الخالصُ نورٌ ساطعٌ، لا يُبْقِي نِدّاً ولا ضِدّاً، ولا شريكاً ولا ظَهيراً، ولا مَعْبُوداً ولا رَبّاً إلَّا اللَّهَ وحدَه، وبه يَصِير الدَّاعي عبداً لربِّه، فَيُفْرِدُه بالقَصْدِ والتَّعظيمِ والمَحَبَّةِ والخوفِ والرَّجاءِ، ويَتَعلَّق القلبُ به في السَّرَّاءِ والمُلِمَّاتِ، ويَهَتِف اللِّسانُ بدعائِه في الرَّخَاءِ والكُرُباتِ.

ومَن أراد معرفةَ حقيقةِ توحيدِه، فَلْيَنظُرْ: مَن يدعو؟

فمَن أخلص دعاءَه للَّهِ؛ أصاب التَّوحيدَ، ومَن دعا غيرَ اللَّهِ؛ وَقَعَ في الشِّركِ، قال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الكَافِرُونَ﴾.

والكمالُ والمَجْدُ للَّهِ وحدَه، والعبادةُ لا تَليقُ إلَّا للَّهِ ولا تنبغي الإِلهيةُ إلَّا لِعَظمتِه، وليس في البشرِ – مهما عَلَت منازلُهم – مَن يَستحِقُّ أن يُدعَى مِن دون اللَّهِ في قليلٍ أو كثيرٍ، فمَن عَجَزَ أنْ يَخلُقَ مخلوقاً صغيراً في هذا الكونِ فلا نَصيبَ له في العبادةِ والدُّعاءِ، ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾.

واللَّهُ اصطفى مِن خَلْقِه رُسُلاً وفضَّلَهم على غيرِهم، وليس منهم مَن نازعَ اللَّهَ في ربوبيَّتِه، أو أَمَر النَّاسَ بدعائِه أو رَضِي به، ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾، وكانوا عُرْضَةً للأمراضِ والضَّعْفِ؛ منهم مَن قُتِلَ، ومنهم مَن مَرِضَ وسُحِرَ، وهم بشرٌ يأكلون ويشربون، فكيف يكونُ إِلَهاً مَن لا يُقِيمه إلَّا أَكْلُ الطعامِ؟!

بل أفضلُ الخَلْقِ – نبيُّنا مُحمَّدٌ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم – كُسِرَتْ رَبَاعِيَّتُه وشُجَّ رأسُه وسَقَطَ عن الفَرَسِ وجُحِشَ شِقُّه – أي: انْخَدَشَ جِلْدُه – وصلَّى وهو قاعدٌ من أَثَرِ السُّقوطِ.

ودعاءُ غير اللَّهِ جُرْمٌ عظيمٌ، قال تعالى لنبيِّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم: ﴿وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ﴾.

ومِن أعظمِ أنواعِه: جَعْلُ وسائطَ بين اللَّهِ وخَلْقِه، قال شيخُ الإسلام رحمه الله: «لَمْ يَسُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ لِلْخَلْقِ أَنْ يَطْلُبُوا مِنَ الصَّالِحِينَ المَوْتَى وَالغَائِبِينَ وَالمَلَائِكَةِ دُعَاءً وَلَا شَفَاعَةً؛ بَلْ هَذَا أَصْلُ الشِّرْكِ، فَإِنَّ المُشْرِكِينَ إِنَّمَا اتَّخَذُوهُمْ شُفَعَاءَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾».

وأعظمُ ذَنْبٍ في الأرضِ دعاءُ غيرِ اللَّهِ معه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ» (متفق عليه)، وتَوَعَّدَ اللَّهُ مَن دعا مع اللَّهِ غيرَه بالعذابِ، قال جَلَّ شأنُه: ﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾، قال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: «يُحَذِّرُ بِهِ غَيْرَهُ، يَقُولُ: أَنْتَ أَكْرَمُ الخَلْقِ عَلَيَّ، وَلَوِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَعَذَّبْتُكَ».

وما شُرِعَتِ الصَّلاةُ والرُّكوعُ والسُّجودُ ولا رُفِعَتِ المساجدُ في أرضِ اللَّهِ إلَّا لِيُدعَى فيها اللَّهُ وحدَه ولا يُدعَى غيرُه أبداً، قال جَلَّ شأنُه: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً﴾.

الدَّاعي يدعُو الخالقَ ولا يدعو مخلوقاً مثلَه، ولا يَستغيث بمَن يُشَارِكُه في العبوديَّة، قال عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾.

والمقبورُ لا يَسمعُ داعيَه ولو رَفَعَه إلى مَقامِ الرُّبوبيَّةِ، ولا يَملِكُ لمَن يَستغيثُ به شيئاً ولو ادَّعى فيه خصائصَ الإِلَهيَّةِ، قال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ﴾ وهي القِشرةُ بين النَّوَاةِ والتمرةِ، ﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ﴾.

والأمواتُ عاجزِون عن نُصرةِ أنفسِهم؛ فَمُحالٌ أن يُغِيثوا غيرَهم، قال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾.

وداعي غيرَ اللَّهِ مُوقِنٌ بأنَّ مَن دعاه لا يَسْمعُ ولا يَنفعُ، قال إبراهيمُ عليه السَّلام لقومِه عن أصنامِهم: ﴿هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾، قال ابنُ كثيرٍ رحمه الله: «يَعْنِي: اعْتَرَفُوا بِأَنَّ أَصْنَامَهُمْ لَا تَفْعَلُ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا رَأَوْا آبَاءَهُمْ كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ».

ومَن دعا مَيِّتاً يرجو منه تحصيلَ مَنْفَعَةٍ أو دَفْعَ مَضَرَّةٍ فلن يَجْنِيَ مع فَسادِ الدِّينِ غيرَ التَّعَبِ، قال جل شأنه: ﴿يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ البَعِيدُ * يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ المَوْلَى وَلَبِئْسَ العَشِيرُ﴾.

والْتِفَاتُ الدَّاعِي إلى المخلوقين واستغاثَتُه بالأحياءِ والمَيِّتِين؛ امتهانٌ للنَّفْسِ وإذلالٌ لها، قال الإمامُ أحمدُ رحمه الله: «اللَّهُمَّ كَمَا صُنْتَ وَجْهِي عَنْ السُّجُودِ لِغَيْرِكَ فَصُنْهُ عَنِ المَسْأَلِةِ لِغَيْرِكَ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى كَشْفِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ سِوَاكَ».

وما مِن عبدٍ دعا غيرَ اللَّه أو الْتَفَت قَلْبُه إلى غيرِه أو وَسْوَسَ له الشيطانُ بالتَّعَلُّق بِسِوى ربِّه إلَّا وَقَعَ له مِن الشِّدَّةِ والكَرْبِ ما يُعَرِّفُه عَجْزَ مَن دعاه ويُبَيِّنُ له ضَعْفَه وهَوَانَه، قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾.

ومَن عَلِم تفرُّدَ اللَّهِ بالمُلْكِ واستغناءَه عن الخَلْقِ؛ يَئِس مِن تحصيلِ النَّفْعِ إلَّا منه، وانقطعَ رجاؤه إلَّا فيه، قال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾.

وإذا حَضَرَ الموتُ مَن عَبَدَ مع اللَّهِ غيرَه تَبَرَّأَ مِمَّا صَنَعَ: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ﴾ أَيْ: أَظْهَرُوا السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ وَالِانْقِيَادَ قَائِلِينَ: ﴿مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ﴾.

ويَنْكَشِفُ الغِطاءُ عن عَيْنَيْ كلِّ إنسانٍ يومَ القيامةِ فَيَرَى عَجْزَ الخَلْقِ عَيْنَ اليقين، وَيَشْهَدُ تَبَرُّؤَ المَدْعُوِّين، قال سبحانه: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا﴾ أي: ذَهَبوا عنَّا، فلا نَرْجُو نفعَهم ولا خيرَهم.

ومَن دعا غيرَ اللَّهِ؛ غَضِب اللَّهُ عليه وخَلَّده في النَّارِ، قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ نِدّاً دَخَلَ النَّارَ» (متفق عليه).

وبعدُ، أيُّها المسلمون:

فالدُّعاءُ عبادةٌ عزيزةٌ، بِهَا يَظْهَر المُوَحِّدُ من غيرِه، وهو من أَيْسَرِ الأبوابِ على الشَّيطانِ لإفسادِ دينِ العبادِ، قال ابنُ القيِّمِ رحمه الله: «طَلَبُ الحَوَائِجِ مِنَ المَوْتَى وَالاِسْتِغَاثَةُ بِهِمْ وَالتَّوَجُّهُ إِلَيْهِمْ أَصْلُ شِرْكِ العَالَمِ».

والمسلمُ يَجمَعُ قلبَه وعبادتَه ومُعَاملتَه على ربِّه وحدَه، ويُفَرِّقُ في عِلْمِه وقَصْدِه وإِرَادَتِه ومَحَبَّتِه بين الخالِق والمخلوقِ، فَيَعْرِفُ لكلٍّ منهما حقَّه ومنزلتَه ولا يَجْعَلُ لأحدِهما ما لِلْآخَر، فالرَّبُّ له العبادةُ والدُّعاءُ والخوفُ والرَّجاءُ، وصالحُ الخَلْقِ لهم المَحَبَّةُ والاتِّباعُ وحِفْظُ الحُرْمَةِ وحُسْنُ الثَّناءِ.

أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم

﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

بارك اللَّهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم …

الخطبة الثَّانية

الحمدُ للَّهِ على إحسانِه، والشُّكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهد أن لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيماً لشأنِه، وأشهد أنَّ نبيَّنا مُحمَّداً عبدُهُ ورسولُه، صلَّى اللَّهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وسلَّمَ تسليماً كثيراً.

أمَّا بعدُ:

فأغْلَى ما أُوتِيَه العبدُ توحيدُه لربِّه، وأعظمُ النِّعَم ثباتُه عليه حتى يلقاه، فالقليلُ منه إذا صَحَّ يُنَجِّي من الخُلودِ في النَّارِ، وكمالُه يَمْنَع من دخولِها.

وللشَّيطانِ حِيَلٌ وشُبهاتٌ يَجْتَالُ بِها العبادَ عن دِينهم، وما من شُبهةٍ تَعْرِض للعبدِ إلَّا وفيها ما يُغْرِيهِ باتِّباعِها ويدعوه إلى تصديقِها.

فمَن رَامَ السَّلَامة فَلْيَتَعَاهَدْ توحيدَه وإيمانَه بتلاوةِ القرآنِ وتَدَبُّرِه والتَّزَوُّدِ من العِلْمِ، ولْيَنْأَ بنفسِه عن مَواطنِ الشُّبُهاتِ.

ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه فقال في محكم التنزيل: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾. اللهم صلى وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضوا بالحق وكانوا به يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعز الإسلام وأعز المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين، اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين، وألحقنا بك غير خزايا ولا مفتونين يا رب العالمين.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم وفق إمامنا وولي عهده لما تحب وترضى، وخذ بناصيتهما إلى البر والتقوى، وانفع اللهم بهما الإسلام والمسلمين، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك، يا رب العالمين.

ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

عباد الله .. ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزدكم، ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.

 لتحميل ملف الخطبة PDF 

لمشاهدة والاستماع للخطبة   

الكلمات المفتاحية

جميع الحقوق محفوظه مشروع تعظيم الله © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود
الأعلىtop